بعد الحرائق الكبيرة التي شهدتها بلادنا في الفترة الأخيرة وما خلّفته من تدمير للغابات وإتلاف لأعداد مهولة من الأشجار، وبعد أن تمّت السيطرة على الحرائق وإطفائها لابدّ لنا من التفكير في إعادة تشجير وزرع هذه المناطق المنكوبة.تُعدّ الزراعة من المهن اللاَّزمة لحياة البشرية، والّتي لا تحيا بدونها، وقد ورد في القرآن الكريم بعضُ الآيات الّتي تلفت انتباه النّاس إلى ذلك؛ منها قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}.يقول ابن خلدون في هذا: “هذه الصناعة (الفلاحة) ثمرتها اتخاذ الأقوات والحبوب بالقيام على إثارة الأرض وازدراعها، وعلاج نباتها، وتعهده بالسّقي والتنمية إلى بلوغ غايته، ثمّ حصاد سنبله واستخراج حبّه من غلافه وإحكام الأعمال لذلك، وتحصيل أسبابه ودواعيه، وهي أقدم الصنائع لما أنها محصّلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالبًا، إذْ لا يمكن وجوده من دون جميع الأشياء إلّا من القوت”.ودين الإسلام يحثّ المسلمين على عمارة الأرض وغرس الأشجار حتّى عند قيام الساعة، كما جاء في الحديث الشّريف عن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إن قامت السّاعة في يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتّى يغرسها فليغرسها”. وهذا الحديث يحثّ على غرس الأشجار المثمرة عامة وإن كان المذكور فيه النّخل. كما أنّه يشير إلى ضرورة العناية بالزراعة والعمل في الأرض، وأنّه لا ينبغي أن ينقطع العمل في إعمار الأرض، والاستفادة من خيراتها، وبخاصة إذا أتلفت وهلكت الأشجار الّتي كانت تغطى المساحات الخضراء الشاسعة.ووردت أحاديث كثيرة تبيّن فضل الغرس والزرع، وتثبت الأجر لفاعله ما انتفع بذلك منتفع من إنسان أو حيوان أو طير، أو حشرة، ومن ذلك: حديث أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو بهيمة إلّا كان له به صدقة”. وعن أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “ما من رجل يغرس غرسًا إلّا كتب الله له من قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس”. وعن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأذنيّ هاتين يقول: “مَن نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتّى تثمر كان له في كلّ شيء يصاب من ثمرها صدقة عن الله عزّ وجلّ”.ويحصل الأجر للمزارع ولو كان الأكل منه على وجه الغصب أو الانتهاب أو السرقة أو الاعتداء، فضلًا عن الإطعام. ويدلّ لذلك ما روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: “ما من مسلم يغرس غرسًا إلّا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلّا كان له صدقة”.وعن أنس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “سبعة يجري للعبد أجرهن وهو في قبره وبعد موته: مَن عَلّم عِلمًا أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورّث مُصحفًا، أو ترك ولدًا يَستغفر له”.ومن فضل الزراعة والعمل في الأرض الاشتغال عن النّاس، والتنزّه عن عيوبهم والبعد عن قيلهم وقالهم، خاصة إذا كان الإنسان ممّن لا يملك القدرة على الإصلاح والإنكار. قال الشوكاني في تفسيره: “إنّ الاشتغال بالعمل فيها –أي الأرض- والاستغناء عن النّاس بما يحصل فيها من القرب العظيمة مع ما في ذلك من الاشتغال عن النّاس والتنزّه عن مخالطتهم الّتي هي لا سيما في مثل هذا الزّمان سم قاتل، وشغل عن الله شاغل..”.ومن فضل الزراعة أنّ الأجر يحصل للغارس والزّارع، وإن لم يقصدَا ذلك حتّى لو غرس وباعه، أو زرع وباع ذلك الزّرع كان له بذلك صدقة لتوسعته على النّاس في أقواتهم كما روي في حصول الأجر للجالب، وإن كان يفعله للتجارة والربح، قال عليه الصّلاة والسّلام: “الجالبُ مرزوقٌ، والمحتكرُ ملعونٌ”.لقد اهتمّت الشّريعة الإسلامية بالزراعة والغرس والتشجير اهتمامًا بلغ حدًّا لا يُعرف له مثيل، فقد وجدنا أنّ الخلفاء على مرّ التاريخ الإسلامي يوصون أمراء الجند وألوية الجيوش لما يبعثونهم للقتال بالمحافظة على الشجرة وخاصة الشجرة المثمرة، مثلما يأمرونهم بالمحافظة على أرواح الأبرياء ممّن لا علم لهم بالحرب ولم يشاركوا فيها، “لا تعقرن نخلًا ولا تحرقنها ولا تعقروا البهيمة، ولا شجرة ثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء”.ولذا فإنّ المسلم مدعو دائمًا إلى أن يهتمّ بالزراعة ويغرس ويثابر في الغراسة ويكثر منها، وإنه ممّا ينبغي على المسلمين التواصي به والتنافس فيه، كما عليهم أن يربوا ناشئتهم عليها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات