38serv
تضخم جدل نصب ونزع تمثال القائد الأمازيغي "كسيلة" في بلدية بوحمامة بولاية خنشلة على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، ليتحول إلى تجاذب وتنابز وتطرف، بعيدا بالكامل عن القراءة التاريخية السليمة والهادئة.
وبعيدا عن جدل مواقع التواصل الذي عادة ما تذكيه عصبيات وعواطف ونزعات جهوية، خارج السياقات والخلفيات والحقائق التاريخية وتسلسلها، يقدم الدكتور والمؤرخ رابح لونيسي قراءة في الحدث، بطريقة علمية وموضوعية، منبها إلى مدى خطورة هكذا صراعات وإمكانية استغلالها وتوظيفها كمدخل في إطار حروب الجيل الرابع والخامس، وفق توصيفه.
واعتبر لونيسي أن "الجهة الوحيدة التي تسعى إلى معالجة أزمة الهوية وبناء تاريخ مشترك، وهو أمر مُفاجئ للبعض ربما، على حد تعبيره، هي السلطة، التي تريد تصحيح خطأ ارتكبته قبل 1988 وليس التيارات الإيديولوجية المتصارعة، كالإسلاميين والحداثيين والتقدميين وغيرهم، الذين يريدون كتابة التاريخ على طريقتهم وبما يخدمهم".
وانطلاقا من سؤال عن أسباب تجدد هذا الجدل كلما نصب تمثالا أو أثيرت قضايا تاريخية وسط الجزائريين، يرى لونيسي في اتصال مع "الخبر"، أن الأمر كان "سيمر بشكل عادي لو لم يتم نزع التمثال والرضوخ إلى الغوغاء، باعتبار القائد الأمازيغي كسيلة، "قائدا مسلما وساهم مع قبيلته في نشر الإسلام في شمال إفريقيا، عكس ما يظن البعض"، مؤكدا أن خلاف القائد مع الفاتح عقبة بن نافع، نابع من "صراع سياسي حول السلطة لا غير".
ويتعين في منهج المؤرخ، العودة إلى الجذور لفهم القضية، منطلقا من أن "قتل كسيلة لعقبة بن نافع دافعه سياسي وليست عقائدي، فلماذا يتم نزع تمثاله على أساس مرتد"؟ يتساءل المؤرخ، نافيا وجود مصدر تاريخي يثبت بأن كسيلة مرتد عن الإسلام.
وأوضح لونيسي أن "الأمويين كلما عارضهم قائدا اتهموه بالردة على السلطة، مثلما حدث حتى مع طارق بن زيد أيضا".
وقدم لونيسي شواهد تاريخية للإقناع بأن نزع التمثال كان فعلا خاطئا، في مقدمتها وجود تمثال الكاهنة التي قاومت الفاتحين، وتماثيل أخرى من القادة الأمازيغ وأن حقبة الأمويين كانت "سياسية أكثر منها دينية"، فقد كانوا، وفق محدثنا "يلعنون سيدنا علي بن أبي طالب إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز وأوقف هذه الممارسات".
ومن شواهده أيضا، أن سكان شمال إفريقيا دخلوا إلى الإسلام قبل حتى مجيء الفتوحات الإسلامية في العهد الأموي، بدليل "ذهاب وفد من سكان شمال إفريقيا للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسؤاله عن الدين الإسلامي"، يضيف لونيسي.
ومن زاوية أخرى، ربط المؤرخ الجدل بالأزمة البربرية التي اندلعت بتاريخ 1949 داخل حزب الشعب، التي "لا تزال ارتداداتها إلى غاية اليوم".
وفي تأصيله للحدث، قال المؤرخ، إن "المشكل الهوياتي لم يكن مطروحا بالكامل في فترة حزب نجم شمال إفريقيا، أين كان يوجد نشيدين باللغتين العربية والأمازيغية والمناضلون يتحادثون بكلتيهما، في حين أنها بدأت عندما ظهرت القومية العربية عن طريق مصالي الحاج ودخول الأمين العام لجامعة الدول العربية، عبد الرحمان عزام على الخط بطلب كتابة تقرير حول تاريخ الأمة الجزائرية".
وتابع المؤرخ "طلب مصالي من القيادات إعداد التقرير فكان له نصا يشمل كل الحقب من العصر النوميدي، إلا أنه لما رآه عزام طلب من مصالي الحاج نزع الجزء المتعلق بالتاريخ القديم وهو ما فعله مصالي الحاج لأسباب تكتيكية".
هذا ما لم يتقبله المناضلون يومها، وفق ما سرد لونيسي، لتندلع الأزمة البربرية التي استغلتها فرنسا وحتى مصالي الحاج نفسه لتصفية حسابات مع خصومه السياسيين واستمرت إلى غاية يومنا هذا بل تحولت الى واحد من الطابوهات في البلاد، يقول المؤرخ.
والخطأ هو ليس نصب التمثال، في نظر المؤرخ، وإنما نزعه، كونه إقصاء لبعدين تاريخي وثقافي لجزء من سكان الجزائر. وتوقف المؤرخ عند النزاعات العرقية قائلا "لا يوجد عرق صافي حاليا، بل صار هذا الطرح عبارة عن أوهام، والصحيح هو أننا جزائريون والجزائر جزائرية وانتهى".
ودعا المؤرخ إلى ترك هذه الخصومات العرقية وترك الجمعيات تلعب دورها لتنمية الأبعاد الثلاثة لهويتنا، الاسلام، العربية والأمازيغية بوصفها "المثلث الذهبي" للأمة.
وختم المؤرخ بأن الأمر مسألة دولة وأمة، وأن المسألة لها تأثيرات سلبية ومخيفة، داعيا إلى عدم الرضوخ إلى أي تيار إيديولوجي والى الغوغاء، مشيرا إلى أن "البعد الأمازيغي رمز من رموز الجزائر ولا يمكن تجاهلها أو إقصائها والجزائر في غنى عن هذه المشاكل الهوياتية، قياسا بمشاكلها الاقتصادية والتنموية والمؤامرات التي تحاك ضدها وهذا سلاح نقدمه للأعداء مجانا".