+ -

في ذكرى مجزرة 17 أكتوبر 1961، تحية تقدير وإجلال إلى كل من شارك وجاهد وساههم وناصر، من قريب أو من بعيد، الثورة الجزائرية المجيدة. تحية معطرة إلى كل شهيد قدم حياته رخيصة عربونا للحرية واستقلال الجزائر، ولاتزال أمجاده تتعاظم من جيل إلى جيل. كل الشكر للضمائر الحية والمخلصة ببلادنا الغيورة العاملة على وحدة الأمة وعزها. كل التقدير إلى العيون الساهرة على أمن البلاد وأمننا وإلى الأبطال المرابطين على الحدود. إلى كل جزائري حر.

من السهل أن يكون المرء شجاعا عندما يتحدث عن أمر يجهله ولا يخوضه بنفسه بمجرد أنه سمع أو قرأ عنه، فالتاريخ لم يكن يوما من صنع الكبار وحدهم، لطالما صنع الأطفال الصغار أمجادا على قدر استطاعتهم رغم ظروفهم وإمكانياتهم المتواضعة. أما المرأة، فكثيرا ما قامت بدورها البطولي بصمودها وتحديها في الأوقات الحاسمة. كما لم يقف الشيوخ والعجزة دائما موقف المتفرج مما يجري من حولهم. فكثيرا ما يجد أناس أنفسهم وسط أحداث غيرت في لحظات قصيرة مجرى مصيرهم وحياتهم كلها، كما سوف نرى.

تأتي هذه الصفحات امتدادا لتلك التي تطرقت فيها فيما سبق إلى مأساة الجزائريين في المهجر طيلة الحقبة الإستعمارية وخاصة خلال الثورة المسلحة المجيدة.

إن ما حدث بباريس في 17 أكتوبر 1961، من تغيير في استراتيجية الثورة الجزائرية، ما هو في الحقيقة إلا مواصلة للحرب بوسائل جديدة وتسجل النقاط في الميدان بشروط المكان والزمان. لقد أدرك الجزائريون أن الشجب والإدانة الدولية لا تفيد وأن قوة العدو وقسوته ليس لها قلب كما أن ليس له وعود. فمن السذاجة والوهم، إذن، أن يعتقدوا في الاعتماد على المجتمع الدولي والثقة في وعود العدو ما لم يتحركوا ويصمدوا ليأخذوا حقهم بأيديهم، كما أن اللجوء إلى الآخر والاحتجاج لديه ليخلصهم من الآخر لا قيمة له ولا يجدي نفعا ولا يمنحهم مقعدا يجلسون عليه وجها لوجه مع العدو الخصم.

 

أبطال ملحمة 17 أكتوبر 1961

 

إذا ما استثنينا الشخصيات والقيادات البارزة والمعروفة للثورة الجزائرية، خصوصا أعضاء فدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، فإن أبطال الملحمة الذين أركز عليهم في هذا المقال أناس حقيقيون من كل أطياف الشعب الجزائري "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر"، معروفون بين أبناء الجالية الجزائرية بأسمائهم. كان لي الحظ أن تشرفت بمعرفة بعضهم. لم يكونوا من الشخصيات المعروفة أو من المسؤولين الكبار للثورة، بل من بسطاء الشعب. لم تكن لهم لا كاريزما ولا شهرة أو جاه. لم يخطر ببال هؤلاء الفقراء والأميين لما وصلوا إلى فرنسا أن يخرجوا أبطالا من أحياء الصفيح ومن أعاظم الرجال والنساء. ضربوا أروع الأمثلة في التضامن والكفاح والإيثار ونكران الذات. تحول همهم من البحث عن لقمة العيش إلى مواصلة الثورة مهما كان الثمن. نقل المعركة إلى أرض العدو كان أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لهم.

سأعود إلى دور البراءة والمرأة الجزائرية في أحداث أكتوبر 1961، بعد مختصر عن المعاناة والمآسي التي وضعت الجزائريين على طريق الهجرة إلى الخارج وبالخصوص إلى فرنسا.

لنعد إلى أصل القضية. تمر على الشعب الجزائري 124 سنة من القهر والإذلال والعبودية منذ احتلت فرنسا أرضهم. خلال هذه الفترة، شهدت مقاومة الاستعمار أكثر من 15 ثورة وانتفاضة.

تنطلق الشرارة الأولى للثورة المجيدة في الفاتح نوفمبر 1954. وكما في كل ثورة، تبدأ معها مآسي العائلات. لقد ضيق الاستعمار عليهم الجزائر بما رحبت وسدّ عليهم كل أبواب الرزق والقوت. تتمزق العائلات ويتشتت أفرادها بين الجبل والمعتقل والسجن والغربة والمجهول. ويبدأ الحصار والدمار للقرى والمداشر. يزيد إنشاء مراكز التجمعات والمحتشدات والمناطق المحرمة من تفاقم الأزمة الإنسانية في الجزائر، مما يدفع بالكثير من غير القادرين عن الدفاع عن أنفسهم إلى الهروب والنزوح إلى الخارج، بحثا عن مناطق أرحم. إلى أي مكان تلتئم فيه العائلة ولا يرون فيه برك الدماء والدمار ولا يسمعون فيه الصراخ والعويل. رغم سياسة التشديد التي تفرضها ومراقبة الحدود البرية والبحرية، ينتصر جيش التحرير في تحدي جنرالات فرنسا وينجح في اختراق خطيْ شال وموريس، ومساعدة الفارين في الخروج فرادى وجماعات. غير أن ما كان ينتظرهم هناك، بأحياء الصفيح في فرنسا هو الفقر والمرض والجهل. يحملون الوطن الذي سكن واستوطن بداخلهم. ساكنون خارج الوطن، مسكونون بالوطن.

 

للتذكير في هذا السياق

 

في شتاء 1948 و1949 كان الجزائريون يموتون من البرد تحت جسور نهر السان أو فوق شبابيك التهوية لميترو باريس أو على الأرصفة الباريسية.

في مرسيليا سنة 1951، كان الجزائريون يعيشون محشورين داخل الأقبية المهجورة لـ"جدار المتوسط" الذي بناه الألمان ومخابئ ودهاليز محفورة على عمق مترين تحت الأرض ومزاريب تؤدي بالنزول إلى الأقسام السفلية تحت الأرض: كانت تلك هي السكنات المخصصة للجزائريات وأطفالهن. أما الرجال فينامون على أرصفة الميناء بين أكوام السلع تحت أقدام الرافعات. وفي سهل نانتير، كان الجزائريون، خوفا من المطاردة، يختبئون داخل دهاليز تحت الأرض تستعمل لزراعة الفطريات.

 

ترويج الدعايات لتخويف الفرنسيين بالجزائريين

 

استبد الرعب بقلوب الفرنسيين وخيم على نفوس الناس شبح الحرب. ففي ناحية ليون ادعى بعض الناس أن الرعب ملكهم لما رأوا أن هناك مجموعة من الناس "المتوحشين" نزلوا، ومما كتبه بعض الصحفيين أن الشوارع خلت في المساء من عبادها لأن "المتوحشين" قد تم إطلاقهم، في حين كان الحديث في مدن أخرى يدور حول "الاجتياح البربري"، وحتى يمكن لهم تبرير هذا الحقد، كانوا يروجون لدعاية أن الرجال القادمين من شمال إفريقيا متعطشون جنسيا ويغلب عليهم الكسل. يقولون عنهم صعاليك.. كل هذه الصفات كانت تنتشر بسرعة كالنار في الهشيم وكان يزداد تضخيمها كلما ازداد العنف.

من جهة نانتير، لم يكن بإمكان الباريسيين أن يتقدموا من فضاءات "لافولي".. إنها خطيرة، هكذا كان يقول سكان هذه المدينة، كما لو أن بالمكان ذئاب مسعورة. فمن يجرؤ أن يغامر بنفسه ليؤويهم؟ نفس العداء تبديه السلطات والمواطن الفرنسي العادي. أما أكبر ارتياح بالنسبة لسكان نانتير، فهو كون العرب تم تجميعهم في منطقة واحدة. وإذا ما تطلب الأمر تبرير ذلك، فإنهم يقولون إن العرب يحبون حياة الغيتو ولا يحبون أن يدفعوا الإيجار، كما أنهم لا يحبون الاحتكاك بالأهالي.

 

حال المرأة الجزائرية في المهجر

 

في حين يخوض الرجال المعارك في الجبال ضد الجيش الفرنسي، وجدت النساء أنفسهن مع مصيرهن في تحمل المسؤولية ورفع التحدي مع أوضاع فرضتها الحرب، عرضة لكل الانتهاكات. أسيرات بالمحتشدات أو هاربات أو متظاهرات في شوارع باريس. في الجزائر، تتعرض لكل مخاطر الحرب وكوارثها الجسدية والنفسية كالقتل والاغتصاب والنزوح والأسر والتعذيب والإهانة. يواجهن الموت ودفنّ الشهداء وهاربات في الغابات وفي الدروب الصعبة في رحلات محفوفة بكل المخاطر لإنقاذ أطفالهن. وفي المهجر، يعشن في تهديد مستمر بالأحياء القصديرية ويتحملن العبء الأكبر والإهانة والتعذيب والتنكيل. تجمع المال، تقوم بشؤون البيت ورعاية الأطفال. تقيم الحراسة الليلية، تبلغ تعليمات جبهة التحرير الوطني. تنقل السلاح وتتظاهر. لم يكن دورهن أقل شأنا من الرجال.

لم تكن عيون الحركى الذين أتت بهم فرنسا من الجزائر إلا وسيلة حقيرة حاولت أن تنفذ من خلالهم إلى الجسد الجزائري الطاهر. زرعوا الرعب والدمار في حق أهلهم ووطنهم، ثم تخلت عنهم فيما بعد وأذاقتهم لاحقا من كؤوس التهميش. يتفطن لهم المجاهدون بفرنسا مبكرا ويتحركون بسرعة. يلتف أبناء الجالية حول الثورة لوقايتها من كل الخلايا السرطانية ويتم اكتشاف أمر الخونة. تنهي جبهة التحرير الانقسام الأسود بين الجزائريين وتوحد الصفوف لمواجهة آلة الموت والقمع ولعبت الحكومة الفرنسية بكل الأوراق الأخرى التي أتيحت لها. لم تكن منزعجة من نشاط الحركة الوطنية فوق التراب الفرنسي طالما كانت تخدم مصالحها في محاربة جبهة التحرير.

صار الحضور المتواصل للحركى لا يطاق، إذا ما حل الليل ولم يرحلوا سيضطر الرجال للبحث عن المبيت في مكان آخر. يلجأون إلى أماكن أخرى يقضون فيها ليلتهم. على ضفاف نهر السان أو تحت الأشجار يلعب الأطفال الصغار دورا مهما في تنسيق عمليات الاتصال بين الآباء في الشوارع والعائلات في بيوت الصفيح، من دون إحداث أي حس.

ومن بين الضباط الذين كانوا يؤطرون الحركى، النقيب ريمون مونتانيار من "الشؤون الجزائرية"، كان يقود الفرع الإداري الحضري بسالموبيي بالجزائر. وصل إلى باريس في نوفمبر 1958، أحد قدماء حرب الهند-الصينية وقدماء المصالح البسيكولوجية بالجزائر (الحرب النفسية) لقد فتح مكاتبه بدار العمالة بنانتير أين تم إنشاء مصلحة الخدمات التقنية، صرح قائلا: "قمت بإعادة السلم إلى حي قصديري بالجزائر وأعرف كيف أتصرف هنا. سأقوم بوضع مكبرات الصوت في كل مكان حتى يعرف الناس أننا نقوم بحمايتهم. وهكذا سوف تتوقف جبهة التحرير الوطني عن ترهيبهم".

هل لنا من يوم نرى فيه ريمون مونتانيار، إن لم يزل على قيد الحياة، كما كان لنا مع شهادة أوساريس؟

 

الثلاثاء 17 أكتوبر 1961: لقد أزفت ساعة الزحف

 

قبل انطلاق المظاهرة، لم يتسلل ولا جزائري واحد إلى المظاهرة وبحوزته ولو سكين صغير، التزاما بأوامر جبهة التحرير التي أرادتها مسيرة سلمية حضارية، وهذه ملاحظة مهمة ودقيقة. كما يكون الجزائريون يلبسون أحسن ما لديهم من ثياب كما لو أنهم ذاهبون إلى عرس. يأخذ مناضلو جبهة التحرير أماكنهم على مخارج الأحياء القصديرية وعلى حافتي الأرصفة والطرقات لتفتيش المشاركين في المظاهرة فردا فردا، ليتأكدوا من أن ليس هناك شخصا يحمل معه شيئا يمكن أن يصيب به فرنسيا. التعليمات كانت صارمة وواضحة لكل الجالية.

جموع غفيرة تتحرك نحو باريس دون أدنى استفزاز، كأنها غابة زاحفة أو نهر دافق. مهما كانت نتيجة المسيرة، فإنها نقطة تحول في مسار الثورة، سينظر إليها المجتمع الدولي كمفصل في الحرب الدائرة في الجزائر وتداعياتها تكون ذات أهمية كبيرة من واقع الحرب على الأرض.

بكل برودة ترد شرطة موريس بابون بوحشية لا يمكن وصفها. 7000 شرطي و1400 من شرطة مكافحة الشغب ترمي الكثير منهم وهم مكبلو الأيدي في نهر السان. تعترف بقتيلين فقط، فيما عدد القتلى لا يحصى، ما بين 200 و400 حسب بعض الإحصاءات. عدد الجرحى 2300، حسب علي هارون (الولاية السابعة). منذ 19 مارس إلى غاية 2 أكتوبر 1961، 7 أشهر قبل المجزرة الكبرى، 25 جزائريا تم رميهم في نهر السان، حسب موظف سام بمحافظة الشرطة.

بالموازاة مع ذلك، كانوا يرمونهم من الطائرات في البحر كما جاء ذكره. كما تشهد الأحياء القصديرية عمليات حرق الأكواخ، بالإضافة إلى التعذيب والمداهمات والخطف والنقل إلى المعتقلات والإبعاد.

 

مشاركة البراءة.. حدة تتحدى

 

عن مشاركة الأطفال، نبدأ مع قصة الطفلة حدة، ذات 5 سنوات، التي دخلت التاريخ إلى جنب الكبار. لم تكن هناك مسافة تفصلها عن المتظاهرين. الساعة السادسة والنصف مساء، الثلاثاء الممطر هذا، تتأهب حدة للانطلاق وهي تمسك بيد أمها، تلبس أجمل حلة وتكاد تطير من الفرحة. تتأمل الناس ولا تفهم لماذا يحدث كل هذا الزلزال المفاجىء. تقول لامرأة بجانبها: "هل تعلمين إلى أين نذهب الآن؟، وتجيب عن سؤالها: "إلى السينما".

تنطلق وسط الجموع، تخوض المغامرة مثل الكبار، تردد نفس الهتافات معهم، كانت النساء تدفع أمامها عربات الأطفال وتتقدم باتجاه قوات الشرطة التي كانت تنتظرهن في الأمام. فجأة تدوي طلقات النار. همجية ودموية لا يمكن وصفها. تعيش المأساة مثلهم، تتحمل البرد والتعب والألم والجوع والعطش، بعد تيه طويل في الظلام تعود مع أمها إلى حي الصفيح. لقد تم توقيف أبيها. أدركت تلك الليلة أن هناك هدفا أسمى ستحيا أو تموت من أجله: تحرير الجزائر من الاستعمار البغيض. بين عشية وضحاها كبرت وتبخرت من ذهنها فكرة الذهاب إلى السينما. 3 أيام فيما بعد، الجمعة 20 أكتوبر، تخرج حدة مع أمها متحدية أجهزة القمع بفخر وكبرياء وتقول لتلك المرأة التي تسير بجنبها: "سنذهب إلى الحرب". حنكة وفطنة وشجاعة مبكرة تسبق عمرها وتضعها مع الكبار.

فتاة أخرى تدخل التاريخ، التلميذة الشهيدة فاطمة بيدار، 15 سنة، كانت عائدة من المدرسة، تتعرض للضرب من قبل الشرطة الفرنسية ثم يرمى بها في نهر السين. 31 أكتوبر يُعثر عليها مع 15 شهيد آخر. تنتشل جثتها ومحفظتها لا تزال معلقة في ظهرها.

تنتشر الأخبار بسرعة، ليكتشف أن المئات من الأطفال قد تم توقيفهم وأكثر من ألف امرأة تم حبسها. لقد اقتيدوا كلهم إلى مراكز الشرطة. نقلوهم إلى الملاجئ. إلى مركز الأشغال بولين رونالد والمستشفى غير المستعمل بوجون ومركز لوكي  وملاجئ محافظة "لاسان".

 

دور النساء: مواصلة التظاهر بعد 17 أكتوبر

 

عدد كبير من الرجال لم يعودوا إلى بيوتهم. إذن، فأين هم كل المفقودين؟ هل غرقوا؟ هل أبعدوهم إلى الجزائر؟ هل هم في فرنسا بأحد المعتقلات؟ بمركز الفرز بفانسان؟ بمراكز الشرطة؟ بمركز المعارض أم بأحد الملاعب؟ لقد استبد الذعر بالجميع.

تضطر الجزائرية، رفيقة دربهم، أن تنوب عنهم، من دون أن تأخذ الإذن أو تتلقى الأمر من أحد، فتكون بديلا لهم في الميدان وتحمل على عاتقها مهمة مواصلة المظاهرات ورعاية الأطفال والعجزة والمسنين والجرحى.

لا شك أن الأيام القادمة ستكون حاسمة وتقلب موازين الرأي الفرنسي والعالمي لصالح المقاومة وتسقط حسابات ورهانات قادة الإيليزي وتجبرهم على مراجعة سياستهم وتوجهاتهم القمعية والجلوس على طاولة المفاوضات.. لم يعد شيء يثني الجزائريات عن الخروج تحت قيادة جبهة التحرير من مواصلة الكفاح والصمود في وجه الاحتلال. لم يعدن بحاجة إلى تلقي الأوامر من أحد للنزول إلى الشارع والتظاهر.

جحافل بالآلاف من رجال الجيش والشرطة والحركى مدججة بالأسلحة، مقابل ثلة من النساء لا يحملن في أذرعهن إلا أطفالهن وفي قلوبهن الوطن. في الأيام التي تلت 17 أكتوبر، احتلت النساء رفقة أطفالهن شوارع باريس للمطالبة بإطلاق سراح الرجال الموقوفين وتقرير المصير، كأنما نزلوا من السماء أو انشقت الأرض فصعدوا منها. خرجت لتكشف عن هويتها الجزائرية الحقيقية وعما يعانيه أهلها داخل الوطن وفي فرنسا وتبيّن للعالم أنها إنسان وتكشف الوجه القبيح للاستعمار، كن صامدات كجبال الجزائر الشامخة. تتصدى لإطلاق النار وترفع الزغاريد مع صيحات "الله أكبر، الجزائر جزائرية". في نانتير، مثلا، تعتقل الشرطة كل الأطفال مع أمهاتهن (أكثر من 150 أم).

أطلقوا سراحهن ليلا، تعود النساء إلى الحي، خائفات من تعرض الشرطة. في اليوم الموالي، تتمكن المئات من النساء في صمت يثير الإعجاب من تنظيم تجمع هائل بالقرب من جسر "بوزون" في جو كله كرامة وعزة، يطالبن برفع حظر التجوال. حوالي مائة امرأة أخرى تم اعتقالها.

كل المعتقلات يرفضن بصورة جماعية الأغطية التي جيء بها للأطفال. دليلة امرأة مناضلة، شخصية قوية، فرضت نفسها كمتحدثة باسم الجزائريات المعتقلات. بعد مشاورة كل النساء، قالت للسلطات الفرنسية: "إنها مسألة كرامة، حتى ماؤكم الذي جئتم به لأطفالنا لا نحتاجه منكم. احتفظوا به عندكم".

ترتفع الزغاريد مع صيحات "الجزائر جزائرية" و"تحيا الجزائر"، في حين تردد النساء الكبار الأناشيد الثورية. لم يتم إطلاق سراحهن مع أطفالهن الصغار إلا على الساعة الثالثة صباحا.

وفي الوقت الذي كانت الجزائريات ينتشرن في الشوارع، فإن النساء الحوامل اللواتي اقترب موعد وضعهن، أمثال حورية، قد تم تعيينهن من قبل جبهة التحرير لحراسة الأطفال الذين تركتهم أمهاتهم من أجل التظاهر. لقد تم تجميع كل الأطفال في بيوت كدور الحضانة تم استحداثها بالمناسبة. بعض الأمهات الشابات فضلن أخذ أطفالهن معهن تحسبا لعدم التمكن من إرضاعهم في حالة ما إذا تم توقيفهن. نظرا للعدد الهائل من الجزائريات المتظاهرات فإن قوات القمع قد تجاوزتها الأمور، فقامت بالزج بالمعتقلات بمستشفى الأمراض العقلية "سانتآن هنريروسال" ومأوى "بول بروس" بفيل جويف، كما تم تسخير كل حافلات وكالة النقل الحضري لباريس من قبل مصالح موريس بابون.

وكذلك الحال في المدن الداخلية بفرنسا، فقد نزلت النساء إلى الشارع، اعتقلت المتظاهرات بمدينة رووان داخل الثكنات. وبشارل فيل تم حبس الجزائريات بقاعات الانتظار بمحطة القطار. في كل المدن تم تفريق المتظاهرات بوحشية واعتقال أطفالهن. على الرغم من ذلك، تشكلت مواكب المتظاهرات أمام أنظار قوات القمع. فقامت الجزائريات باستعراضات مهيبة وهن يهتفن "الجزائر جزائرية" ويحملن لافتات كتب عليها "الاستقلال للجزائر" وهن يرفعن عاليا الأعلام الجزائرية.

من جديد، تخرج الجزائريات من أكواخهن بحي "لافولي"، لتلتحق كلهن بجزائريات أحياء صفيح آرجانتوي وسانت – وانوجان فيلييه وسان - دوني وكولومب من أجل التظاهر بعد الظهر أمام سجني "فران" و"لاصانتي"، حيث يسجن أزواجهن وإخوتهن وأعمامهن وأقرباؤهن.