كتاب "الوصول من قسنطينة إلى باريس 1962-1972"1

+ -

أن تقرأ للمؤرخ الفرنسي المعاصر بنيامين ستورا، ذي الأصول اليهودية الجزائرية، كتاباتِه التاريخية عن الجزائر، حصراً، ليس كما تقرأه في كتابه الجديد المذكور أعلاه الذي أجده يتأرجح بين السرد السيَري وبين المذكرات والاعترافات، في فترة تبدو محددة من خلال مفصل العنوان الثالث (1962-1972) ولكنها في الحقيقة تمتد إلى 2021، تاريخ تسليمه الرئيس الفرنسي الحالي تقريره (بطلب من هذا الأخير) عن "ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر"2.

لا أشك في أن المهتمين، من المؤرخين والباحثين ومن السياسيين أنفسهم في الجزائر، المتابعين باهتمام لافت لكتابات هذا المؤرخ، الذي أشرف على أطروحات كثيرة لطلبة جزائريين، نظرا إلى ما يتميز به من "حضور" في الدرس التاريخي ذي الصلة بالحركة الوطنية منذ نشأتها (أطروحته هو عن مصالي الحاج) ومن "اعتدال" ومن "حياد"، سيكتشفون بنيامين ستورا آخر مضافا إلى بنيامين ستورا الذي يعرفونه.

إنه هذا الطفل، بنيامين ستورا، الذي ولد في قسنطينة (1950) ونشأ فيها وسط عائلة يهودية جزائرية أباً عن جد، من آل ستورا من طائفة السفارديم، استفادت من مرسوم أدولف كريميو (1870)، وانفصلت بفعل تَجْنيسها عن بقية "الأنديجان" الجزائريين الذين كانت واحدة منهم.

تحصل أبوه إيلي (تاجر في السميد) على شهادة البكالوريا (آداب عربية) ودرس الشريعة الإسلامية في جامعة الجزائر، حيث نال الكفاءة في الحقوق مما أهله لأن يكون خبيرا في "الشريعة الإسلامية". وهو يتقن العربية لغة وكتابة. ص 122. ويتحدث اللهجة الجزائرية بطلاقة، كبقية الجزائريين.

وكانت أمه مارته الزاوي Zaoui Marthe تسيّر محل أبيها (عمّار الزاوي) للمجوهرات بعد وفاته. وهي أيضا من عائلة يهودية جزائرية، من آل الزاوي من الطائفة السفارديم نفسها. وتتحدث في البيت العربية الدارجة بتلقائية. ص 135، مثلهما مثل جدته لأمه التي كانت، وهي كفيفة، لا تعرف كلمة واحدة بالفرنسية ولا تتحدث سوى بالعربية؛ إذ لا تستطيع أن تقول حتى كلمة " bonjour". ص132.

أما جده لأبيه، من خنشلة، (واسمه بنيامين) فكان ماسونيا: "لقد كان السيدَ الأكبر لمحفل الشرق الأكبر في الشرق الجزائري بأكمله". ص 120.

في شهر جوان، أياماً قبل إعلان استقلال في 3 جويلية 3، غادرت (شردت) عائلة بنيامين (هو وأبوه وأمه وأخته) على متن طائرة أرض الجزائر من قسنطينة إلى فرنسا باريس، حاملة ما خف في اليد، تاركة وراءها البيت بأثاثه، الذي كانت أمه ستزوره برفقته عام 1990، حيث وجدت عائلة جزائرية قد احتلته من دون أن تلاحظ أيَّ شيء من الأثاث قد فُقد أو زُحزح: "صامتة، لم تُظهر أي مفاجأة أمام هذه "اللوحة"، قطع الأثاث السليمة هذه، التي لم تُمَس أبداً منذ عام 1962" ص 70.

فمِمَّ كانت عائلة ستورا خائفة كي تغادر الجزائر على عجل؟ هل شعورا باحتمال تعرضها للانتقام لأنها "خانت"؛ الأمر الذي لم يكن ليحدث؟ أم لأنها شردت من "عار" اعتناقها الأيديولوجية الاستعمارية إذ منذ استفادتها من قانون كريميو "اندمجت" في مجتمع "الأقدام السوداء" وتشبعت بالثقافة الفرنسية؟

"أمي كانت تتخيل أن الجزائريين غاضبون عليهم..." ص 202.

إيلي ستورا، والد بنيامين، تشرب الثقافة الفرنسية وانسجم مع الوجود الفرنسي في الجزائر وعاش فرانكوفيليا حتى النهاية؛ ما يعني أنه ظل من أنصار إصلاح "الجزائر الفرنسية" التي يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون. ص 26 و124. وأنه ظل يعتقد إلى آخر لحظة، مثل غيره من اليهود الجزائريين "المندمجين"، أنه لن تحدث نهاية "الجزائر الفرنسية" أبدا وأنه لا يمكن أن تكون هناك "جزائر مسلمة"، حيث الخوف من أن يصبحوا فيها "ذمِّيين". ص 29.  السيد بنيامين، وهو يسرد "اعترافاته" لا يخفى من خلف السطور شعورٌ يوحي وكأن الجزائريين هم الذين تسببوا في مَا أصابه هو وعائلته وجميع اليهود الجزائريين، دون أن يذكر الأسباب الحقيقية والمتسبب المباشر في ذلك.

يبدو ذلك من خلال مفاهيم ثلاثة وظفها تكرارا:

مفهوم "المنفى exile" ص. 49 (له كتاب بعنوان: "المنافي الثلاثة". ص. 207).

مفهوم "اللاجئين refugiés" ص 49.

مفهوم "الخروج exode" بالمعنى التوراتي ص 51.

وإذ يتطرق عرَضا، وبكثير من الحذر، إلى حرب التحرير (1954-1962) فهو لا يذكرها بهذا المفهوم ولا بمفهوم الثورة الجزائرية؛ بل يخصصها بثلاثة مفاهيم تساوي في دلالتها الضمنية بين الجزائريين وبين المستوطنين من الكولون والأقدام السوداء المقتنعين بما يسمى "الجزائر الفرنسية":

Drame algérien  ص 63 المأساة الجزائرية.

Guerre d’Algérie  ص 130 حرب الجزائر.

« évènements » d’Algérie  ص 130 أحداث الجزائر.

أما عن مفهوم« révolution algérienne»  الثورة الجزائرية فإنه لم يسمع به لأول مرة من أحد أساتذته إلا في 1973. ص 208.

فعلى مدى227 صفحة من الكتاب يؤكد السيد بنيامين ستورا فرنسيته ويهوديته (وذلك من حقه).

ولم يبد في أي واحدة من تلك الصفحات موقفه من احتلال الجزائر ولا مما ترتب عنه من جرائم. فلا هو ذكرها أو شجبها أو عبر عن نوع من التعاطف مع من كانوا ضحية لها، بينما هو يفعل ذلك حين يتعلق الأمر بجرائم الحرب المرتكبة في فيتنام وبيافرا "أشعر بالتعاطف مع الأشخاص الذين يعانون، وتعاطفي حقيقي" ص 117.

ولا استعاد صورا من ذاكرة الطفل الذي كانَه خلال حرب التحرير في مدينة قسنطينة؛ فإنه عمل، خلال الكتاب كله، على أن لا يطفو شيء على سطح ذاكرته مما كان يعيشه. كان يطرد إلى عمق نسيانه (أو هو يكْبت) كل تلك التذكارات المؤلمة، السقية والمأسَوَية التي لا يمكن لطفل في سنه (1950-1962) أن ينساها عن الحرب.

فقد حافظ السيد بنيامين ستورا على ذاكرة عائلته، لاسيما والده، التي ظلت حتى 1962 مقتنعة بجزائر ضمن الكيان الفرنسي يتعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون. ص 26.

شخصيا، صرت اليوم أعرف قليلا السيد بنيامين ستورا الآخر. ومن "اعترافاته" في "الوصول L’Arrivée" (بحرف A مكبَّر تعبيراً عن نجاة من خطر!) رحت أقدر غضب الجزائريين على يهود الجزائر الأصليين الذي اختاروا فرنسا سلطةً عليهم في الجزائر (منذ مرسوم كريميو 1870 وحتى نهاية حرب التحرير 1962)، ثم وطناً لهم بدل الجزائر، الأرض التي ولد فيها أجدادهم منذ هروبهم من محاكم التفتيش (1492م) وقبلها بكثير فكانوا ضمن نسيج المجتمع الجزائري.

السيد بنيامين ستورا تحدث في "الوصول" باعتباره يهوديا "مندمجا" بصفة عميقة ونهائية في المجتمع الفرنسي وفي الثقافة الفرنسية، ومن ثَم صيرورتُه فرنسيا، قاطعا جذريا مع موطنه وموطن عائلته الأصلي: الجزائر.

لكن ما أدهشني في "اعترافات" السيد ستورا ـ لأني غالبا ما كوّنت صورة مختلفة عن نشوء "الصهيونية" وتشكلها ـ هو اعتباره "الحركة الصهيونية" من صناعة أحزاب اليسار (الاشتراكيين والشيوعيين) في أوروبا: "ومن المفارقة أنه مع مشاركتي في اليسار الاشتراكي بعد عام 1968 اكتشفت الصهيونية والدور الذي لعبته الأحزاب الاشتراكية والشيوعية في خلق هذه الأيديولوجية". ص 109.

فهو يرى أن محاكمات موسكو الشهيرة (1936-1938) ناتجة عن معاداة السامية التي عرفتها الفترة الستالينية. وأن ليون تروتسكي (بنيامين ستورا كان تروتسكيا) اغتاله ستالين (1940) لأنه كان يهوديا، هو وغيره ممن تمت تصفيتهم من القيادة السوفياتية من أصول يهودية، وليس كونه وكونهم جميعا شيوعيين بلشفيين معارضين لتوجهات ستالين السياسية! وفي المقابل لم يعزُ اغتيال روزا ليكسمبورغ في ألمانيا (1919) مثلا إلى كونها يهودية.

وفي السياق، لم يتكلم عن الشيوعيين الجزائريين من أصول يهودية الذين ناهضوا الاحتلال، مثلا لا حصرا: الشهيد پيار غناسية (تنس/الشلف) والمناضل وليام سبورتيس (قسنطينة) ويهود آخرون أمثال: هنري سالم علاق، لوسيان حنون، جوزيف بيتون، دانيال تيمسيت... أو غيرهم من المقاومين الآخرين في صفوف جبهة التحرير أمثال: الشهيد فرناند إيفتون الذي أعدم بالمقصلة والشهيد موريس أودان الذي مات تحت التعذيب على يد مظليي جيش الاحتلال الفرنسي.

أما عن علاقة عائلته بإسرائيل فإن السيد بنيامين ستورا يوضح أنها محصورة في الجانب الديني ولا تجسد رغبة في "الهجرة إلى إسرائيل".

"علاوة على ذلك، لم أكن أعرف شيئًا عن الصهيونية السياسية التي لعبت دورا حاسما في إنشاء دولة إسرائيل". ص 109.

وحين يتعلق الأمر بما يسميه "النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني" فإنه يبدي موقفا واضحا وصريحا: "إن الاعتراف بشرعية وجود إسرائيل كان مصحوبا دائما في ذهني باعتراف آخر: وهو إنشاء دولة فلسطينية". ص 199.

وكما في خاتمة موجهة إلى الجزائريين، للانفصال الجذري، وإلى الفرنسيين للاندماج النهائي، يصرح: "في الوقت الحالي، كان من الواضح بالنسبة لي أن الجزائر الفرنسية قد انتهت. كان لا بد من أن نقلب الصفحة ونتحرك نحو دخول أكبر إلى المجتمع الفرنسي، نحو المزيد من الاندماج. ومعه أن نتحمل غياب الأصل. وعليه كيف أستطيع أن أتحدث عن وطن لم يعد موجودا في ذكرياتي؟". ص167-168.

إن هذا ما يسميه السيد بنيامين ستورا "الحق في النسيان".

نهاية، أرى أنه بالنسبة إلى الجزائريين لم ينته أي شيء، سوى الاحتلال الذي تم إنهاؤه بثورة مسلحة. وسيبقى من حقهم أن لا ينسوا أو يطووا الصفحة ما لم تعترف فرنسا بجرائمها ضدهم طيلة 132 سنة.

ـــــ

1Benjamin Stora, L’Arrivée de Constantine à Paris 1962-1972, Editions Tallandier, 2023.

2ـ الاقتباسات الواردة في نص المقال من ترجمتي.

3ـ حسب بنيامين ستورا. ص 60.