كدت لا أصدق خبر وفاة محمد عوايطية، رغم أن الموت حق، فالرجل محطة متحركة للنكتة السياسية الإعلامية، فلا يمكن أن تجلس إلى جانبه دون أن تضحك حتى تسيل الدموع من النكت التي يرويها عن الساسة والسياسيين.. فهو المصور الخاص لكل من بومدين والشاذلي وبوضياف وكافي وزروال.. وبهذه الصفة الخاصة في التصوير يرى ما لا يراه بقية الصحافيين والسياسيين المتواجدين حول هؤلاء.عوايطية التحق بمهنة التصوير في المحافظة السياسية للجيش في بداية الاستقلال. هو ابن شهيد ومن أطفال الجهاد في الثورة. وبعد سنوات عمل في المحافظة السياسية للجيش، التحق محمد بالتلفزة الوطنية، ولجديته في العمل وخفة روحه المرحة تم اختياره مصورا خاصا للرئيس بومدين، يصور لصالح الأرشيف الوطني، وبهذه الصفة يحضر كل اجتماعات الرئيس ونشاطاته حتى تلك التي تمتاز بالسرية المطلقة. وقام بنفس المهمة مع الرؤساء الذين جاؤوا بعد ذلك حتى الرئيس زروال... وغادر محمد المهنة النبيلة في كتابة تاريخ الجزائر بالصورة بعد أن ألمّت به نوبة قلبية وهو يصور الرئيس زروال في نيويورك... وتم تعيينه بعد ذلك في المركز الثقافي الجزائري في باريس لدواع علاجية ثم أحيل على التقاعد ووافته المنية في باريس منذ ثلاثة أيام.عوايطية محمد هو الناجي الوحيد إلى جانب المصور البشير من المحافظة السياسية للجيش من كارثة الطائرة التي تحطمت في الفيتنام ومات فيها 15 صحفيا كانوا مرافقين للرئيس بومدين... عوايطية نجا من الموت لأن المرحوم عبد المجيد علاهم أنزله هو والبشير من الطائرة قبل إقلاعها في آخر لحظة ليقوما بتصوير الرئيس عند المغادرة في طائرة أخرى... وقد “زعف” محمد، رحمه الله، على علاهم كونه حرمه من مرافقة زملائه في الطائرة الأولى، لأن الركوب مع الرئيس معناه التسمر في المكان دون حديث أو حركة، وهي حالة لا يحبذها الصحافيون لأنهم يريدون الضحك والتنكيت للتغلب على مشقة الأسفار.ويحكي محمد، رحمه الله، أن الرحلة بين هانوي والجزائر بعد وفاة زملائه الـ15 كانت شاقة وفيها ما يشبه العذاب، حيث كانت الطائرة الرئاسية التي تقل بومدين في هذه الرحلة بمثابة المقبرة الطائرة... حيث كان هو وزميله بشير الناجيان من الموت ينتحبان في زوايا الطائرة الرئاسية والدموع تسيل. وأذكر أنني حضرت استقبال الجثامين الـ15 ورأيت عوايطية يصور الرئيس بومدين في المطار وهو ينتحب، وقد تقدم منه والد أحد الشهداء وقال له: يا رئيس أخذتهم أحياء فلماذا لم تعدهم لنا أحياء! وتفجر بومدين باكيا، وقام عوايطية بتصويره، فأشار إليه بأن يتوقف عن التصوير، فأنزل محمد الكاميرا وراح هو أيضا يمسح عينيه من الدموع!وقد حكى لي عوايطية، رحمه الله، أن بومدين أخذ منه الكاميرا وراح يصوره... قائلا له دائما أنت تصورني فها أنذا أصورك مرة واحدة...! ذات يوم أراد الرئيس بومدين أن يرتاح لمدة أسبوع في جزيرة في يوغسلافيا عند تيتو وأخذ معه محمد لتصويره هناك، وجاءت زوجة الرئيس بومدين ولم تكن معروفة، فسأل عوايطية وهو يصور.. من هذه التي تسير بجنب بومدين، فقال له علاهم إنها زوجته، فقال ضاحكا... بومدين يحب من السمك “اللانڤوس”، ويحب من النساء “اللانڤوس” أيضا.. وكانت أنيسة بومدين “روجية”...! فقال له علاهم صوّر وأنت ساكت؟!رحم الله هذا الذي كانت عينه مثل عين الصقر في تصوير تاريخ الجزائر الحديث! أتمنى أن تقوم كل من الرئاسة والمحافظة السياسية لوزارة الدفاع والتلفزة الوطنية بإنجاز شريط حول عوايطية وشندرلي، فكلاهما كتب بعدسته تاريخ الجزائر الحديث.. جنازة الفقيد ستشيع ظهر غد بمقبرة العالية، وسيصل جثمانه إلى مطار هواري بومدين يوم غد على الساعة الحادية عشرة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات