"لا عفو إلّا عمّا لا يجوز العفو عنه"، عبارة تنطوي على طباق مقلوب من مثل ما اشتهر به صاحبها المفكر جاك ديريدا وما عُرف عنه من جمع للأضداد وغموض متعمد في المعنى. ولكن وعلى الإتواءات الفكرية التي تكتنفها، فإن هذه العبارة التي ألهمته إيّاها زيارته لزنزانة الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، عبارة ذات مغزى، ومغزاها أن نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) جريمة لا تُغتفر، يمكن للضحية وحدها، بمحض إرادتها، وبفضل تعاليها الأخلاقي، أي دون الاكتراث بالجلّاد وبكونه اعتذار أو لم يعتذر أو كونه طلب العفو أو لم يطلب، يمكن للضحية وحدها أن تعفو عفواً نقياً خالصاً يضفي على الجريمة صفة ما لا يجوز العفو عنه صفة نهائية، فتكون الغلبة الأخلاقية من نصيب الضحية.
التعالي الأخلاقي بالنفس فيه من الحكمة القدر الوفير، ولكنّه عاجز عن حسم مسألة الاعتذار والعفو بخصوص الجرائم ذات الطابع السياسي كما هو حال جرائم الاستعمار. بل إن التعالي الأخلاقي بهذا المعنى قد يصبح أداة بيد الطرف الجائر يبتزّ الضحية بمطالبتها به ويتهمها بالضعف الأخلاقي إن هي رفضت العفو اللا مشروط، وهو ما نجده بعينه في بعضٍ من الخطاب السياسي الفرنسي الحالي والذي يسعى في أفضل الأحوال لطرح المسألة من زاوية المصالحة، وفي أسوئها لإنكار حقيقة الجريمة الاستعمارية تاريخياً. وعليه فلا مناص من اعتبار ازدواجية الجلّاد والضحية من زاوية الإزدواجية التي ربطت بها حنّا آرنت، المفكرة الألمانية، بين العفو والاعتذار ربطاً متلازماً، وهي الازدواجية التي تتجلى في الاستعمار الاستطاني كجريمة قائمة بذاتها، أي فيما يخترق حيِّز جرائم الاستعمار المحصورة في الزمن.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات