38serv

+ -

 إن جلب المصالح ودرء المفاسد لم يكن أمرا خاصا بشريعة الإسلام فقط، بل كان هو الوصف الأعظم والأساس المكين الذي قامت عليه كل الرسائل السماوية السابقة، فهذا شعيب عليه السلام يقول: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله} هود:88، وهذا موسى عليه السلام يحث أخاه هارون على جلب الصلاح وتجنب سبيل الفساد، وذلك عندما طلب منه أن يخلفه في قومه: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} الأعراف:142.

وقال تعالى في هذا السياق: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} النحل:90. إن هذه الآية جمعت في مضمونها أسباب المصالح الواجب جلبها، وأسباب المفاسد الواجب دفعها، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الشأن: هذه أجمع آية في القرآن لـِخير يُـمتثل ولِشرٍّ يُجتنب، ومن ثم فهي لم تقتصر على الجانب التكليفي فقط، بل امتدت إلى أبعد من ذلك لتشمل الجانب الأخلاقي والآداب التي ترسخ إرادة تحقيق المصالح، وتقوي عزيمة قطع المفاسد، ومن هنا قال الرازي: جمع في هذه الآية ما يتصل بالتكاليف فرضا ونفلا، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموما وخصوصا. إلا أن ابن العربي يعطي لكلمة العدل الواردة في هذه الآية معنى أبعد مما سبق ذكره فيقول: العدل بين العبد وبين ربه إيثار حقه تعالى على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر، وما هو في النهاية إلا إقبال على المصالح المطلوبة شرعا، واجتناب المفاسد المدفوعة شرعا.

ومن ثم فإذا نحن استقرأنا موارد الشريعة الدالة على مقاصدها من التشريع، استبان لنا من كليات دلائلها، ومن جزئياتها المستقرة، أن مقصد الشريعة من التشريع هو حفظ نظام الأمة والعالم واستدامة صلاحه، وضبط تصرف الناس فيه على وجه يعصمهم من التفاسد والتهالك، وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة.
ويتم تحقيق ذلك باعتبار المقاصد على الجملة في الاجتهاد، من خلال إقامة الأصل العام المقطوع به ألا وهو جلب كل ما هو مصلحة للإنسان ودفع كل ما هو مفسدة عنه.

والذي ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن الاعتماد في جلب معظم مصالح الدنيا والآخرة ودرء معظم مفاسدها، مبني على الظن، لأن المقطوع به منها قليل، ولو فات المضنون به منهما لفسد أمر الدارين ولهلك أهلهما، واعتمادنا على الظن هنا قائم على أن الله سبحانه وتعالى تعبدَنا به، كما أن الغالب صدقه عند قيام أسبابه.

إن مفهوم “جلب المصالح ودفع المفاسد” في الشريعة لا يعني حصول النفع أو بلوغ لذة يجنيها الفرد أو الجماعة من وراء عمل ما، ولا اندفاع ضرر يتصوره الفرد أو الجماعة أنه كذلك، وإنما هو غاية التشريع وأساس أحكامه جملة وتفصيلا، وهو عنصر المعقولية في جانب المعاملات منه، وبهذا يكون الرباط الوثيق الذي يشد الواقع إلى النص، ويجعله محكوما به، كيفما كان العصر والمصر، ومثل هذا لا يترك تفسيره وتحديده لعبث الأهواء، ولذا سارع المجتهدون والعلماء إلى وضع ضوابط معينة إذا ما تخلفت لم يُعتد بالمصلحة المجلوبة ولا المفسدة المدفوعة.
وبناء عليه فإن ضوابط تحقق المصلحة والمفسدة خمسةُ أمور:

1- أن يكون النفع أو الضرر محققا مطردا.
2- أن يكون النفع أو الضر غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء، بحيث لا يقاومه ضدُّه عند التأمل، وهو أكثر المصالح والمفاسد المنظور إليها في التشريع.
3- أن لا يمكن الاجتزاء عنه بغيره في تحصيل الصلاح وحصول الفساد؛ والمقصود بهذا الضابط هو تصور مرتبة في النفع أو الضر دون مرتبة الضابط الثاني وفوق الضابط الرابع.
4- أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضر، مع كونه مساويا لضده، معضودا بمرجح من جنسه، مثل تغريم الذي يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه، فإن في ذلك التغريم نفعا للمتلَف عليه وضررا للمتلِف، وهما متساويان، ولكن النفع قد رجح بما عضده من العدل والإنصاف الذي يشهد أهل العقول والحكماء بأحقيته.

5- أن يكون أحدهما منضبطا محققا والآخر مضطربا، مثل الضر الذي يحصل من خطبة المسلم على أخيه، ومن سَومِه على سَومه، الواقع النهيُ عنهما في حديث الموطأ عن أبي هريرة، فإن ما يحصلُ من ذلك عند مجرد الخطبة والتساوم، قبل المراكنة والتقارب، ضرر مضطرب لا ينضبط، ولا تجده سائرُ النفوس، فلو عملنا بظاهر الحديث لكانت المرأة إذا خطبها خاطب ولم تتم خطبته، والسلعة إذا سامها مساوم، ولم يرضَ السوم ربها، أن يُحظر على الرجال خطبة تلك المرأة وسوم تلك السلعة، ففي هذا فساد للمرأة ولصاحب السلعة، وفساد يدخل على الناس الراغبين في تحصيل ذلك.

فلذلك قال في الموطأ عند ذكر حديث الخطبة: “وتفسير قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيما نرى والله أعلم، أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق وقد تراضيا، فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يعن بذلك إذا خطب الرجل المرأة فلم يوافقها أمره، ولم تركَنْ إليه، أن لا يخطبَها أحد، فهذا باب فساد يدخل على الناس”.
وإن عناية الشرع بدفع المفاسد أشد من عنايته بجلب المصالح، ولهذا قال المقري في قواعده: “عناية الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايته بجلب المصالح، فإن لم يظهر رجحان الجلب قدم الدرء”.
هذه خمسة ضوابط على كل خائض في مسالك الترجيح بين وجوه المصالح والمفاسد أن يستصحبها معه.

* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر