مجتمع

مليكشي، بلقايد، حبة والبقية.. متى العودة؟

كيف يمكن للباحث الجزائري أن يبرز كعالم في بلاده دون أن يغادرها؟

  • 4723
  • 3:16 دقيقة

يُعبّر علماء الجزائر في الخارج عن روح وطنية عالية، في كل مواقفهم وتصريحاتهم، ويبدون استعدادا منقطع النظير للمساهمة في الجهد العلمي الوطني، لكنهم لا يجدون في كثير من الأحيان الطريق الأنسب لوضع خبراتهم في خدمة بلدهم بشكل دائم، بعيدا عن المشاركة في كل مرة كضيوف شرف في ملتقيات وندوات مناسباتية، لا تقدم كثيرا للبحث العلمي الذي يتطور في العالم بسرعة الصاروخ.

قد يكون نور الدين مليكشي، الباحث المرموق في علوم الفضاء بوكالة ناسا الأمريكية، أبرز النماذج التي تعبر عن هذا الواقع، فهو من العلماء الذين يمتازون بتواضع منقطع النظير وإيمان لا محدود بقدرات الجزائر وإمكانياتها في التطور. ولأنه يحمل الهم الجزائري، تجشم زمن الحراك الشعبي، عناء السفر من الولايات المتحدة للجزائر، ليكون حاضرا بين أبناء بلده في المسيرات الشعبية التي نادى فيها الجزائريون بالتغيير. ومؤخرا، سجّل هذا العالم حضوره من جديد في دعم بلاده، بإعلانه تسمية أماكن اكتشفها على كوكب المريخ، أبرز مجالاته البحثية، بأسماء 3 مناطق جزائرية "طاسيلي وغوفي وجرجرة"، مقدما بذلك خدمة جليلة للجزائر المظلومة إعلاميا وثقافيا وسياحيا في العالم.

وفي ميدان بحثي آخر لا يقل فائدة للبشرية، تبرز السيدة الجزائرية أسماء بلقايد، كواحدة من أهم عالمات البيولوجيا في العالم، فهي تقود اليوم معهد باستور الفرنسي الذي لديه فروع في عدة دول، وتشرف على مشاريع بحثية واعدة في مجالات طبية وعلمية تهدف للتوصل لعلاجات دائمة لأمراض مستعصية. لذلك، لم يأت اختيارها مؤخرا في الإمارات عبثا، لتنال جائزة "نوابغ العرب في الطب" وقبل ذلك جائزة "روبير كوخ" في ألمانيا، نظير أبحاثها "الثورية" حول البكتيريا المجهرية والنظام المناعي. وفي كل مناسبة، تكرّم فيها، إلا وتعبر هذه السيدة بكلمات صادقة عن حب حارق للجزائر التي تذكرها بأعظم رجل في حياتها، والدها الوزير السابق أبو بكر بلقايد، المناضل من أجل التحرر الوطني زمن الاستعمار والرمز الذي سقط من أجل أن تحيا الجمهورية سنوات الإرهاب.

وفي الواقع، فإن ما يجمع مليكشي وبلقايد، والآلاف على شاكلتهما، أن أغلبهم درس في الجامعة الجزائرية إلى مستويات عليا، ومنها انطلقوا إلى آفاق أرحب في أكبر الجامعات الدولية، ليبلغوا ما بلغوه من رصيد بحثي وعلمي، وضعهم في قائمة الأسماء المرموقة في العالم. وهذه الحقيقة، مفرحة ومؤلمة في نفس الآن، فهي تخبرنا أن ما تُخرّجه الجامعات الجزائرية سنويا من كوادر، ليسوا كلهم "غثاء" كما هي الصورة النمطية، فمنهم من لديهم قابلية لأن يكونوا من العلماء مثل مليكشيوبلقايد وحبة وزرهوني وتومي والكثيرين ممن نعرف ولا نعرف.

أما المؤلم، فهو أن الجامعي الجزائري الذي يملك هذه القدرة، إذا ما بقي في بلاده، فإنه قد يضطر لدفن مواهبه، لأنه لا يجد من يستطيع احتضانه ليفجر طاقاته في أبحاث تلقى الاعتراف في العالم.

وهنا مكمن الإشكال الذي يتفرع عنه السؤال الكبير: كيف يمكن للباحث الجزائري أن يبرز كعالم في بلاده دون أن يغادرها؟ وكيف نجعل من العالم الجزائري المقيم في الخارج قادرا على نفع بلاده في مجاله العلمي، دون وضعه أمام خيارات صفرية: إما العودة نهائيا للجزائر أو لا شيء؟

صحيح أن الإجابة على هذا السؤال، قد تحتاج كتبا ودراسات، فالإشكالية معقدة ومركبة، لكن ثمة ملاحظات بسيطة، يمكن من خلالها الوصول إلى استنتاجات عميقة، حول نظرتنا عموما إلى البحث العلمي. من ذلك، أن الجزائر عكس العديد من الدول في محيطها القريب، لا تحتضن على أراضيها أي جامعة أجنبية، وهو أمر غير معقول لدولة تطمح لأن تكون رائدة في مجالها الإقليمي، إذ رغم الإرادة المعلنة في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، يغيب تماما الحديث عن استقطاب جامعات أجنبية ومخابر علمية لتأسيس فروع لها بالجزائر، وهو ما يعطي انطباعا عاما بأن الاستثمار في البحث العلمي ليس من الأولويات.

لذلك، تبدو الجزائر بحاجة لتحول جذري في سياساتها التعليمية والبحثية، إذا كانت جادة في الحفاظ على باحثيها أو استعادة نوابغها. وفي عالم اليوم الذي تحرر من الهيمنة الغربية في مجالات التكنولوجيا، يمكن للجزائر أن تعقد شراكات مع دول صديقة لا تحمل أجندات سياسية أو تدخّلية، مثل الصين، كوريا الجنوبية، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا، وفيتنام وغيرها. هذه الدول لديها خبرة كبيرة في إنشاء مراكز بحث متقدمة في مجالات الكمبيوتر والبرمجيات والأدوية والزراعة والصناعات الميكانيكية والفضاء.. ويمكنها أن تساعد في إقامة جامعات لها داخل الجزائر، مما سيخلق بيئة أكاديمية تنافسية ترفع مستوى الجامعات الوطنية لأعلى، وتمنح العلماء الجزائريين في الخارج فرصة للمساهمة العلمية الحقيقية التي لا تجعلهم يشعرون أن وقتهم الثمين يضيع سدى.

التواصل الاجتماعي

Fermer
Fermer