38serv

+ -

أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة وأبي الدهماء رضي الله عنهما قالا: أتينا على رجل من أهل البادية وقلنا: هل سمعتَ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئًا؟ قال: سمعتُه يقول “إنّك لَن تَدَعَ شيئًا لله عزّ وجلّ إلّا بَدَّلَك الله به ما هو خير لك منه”. اشتمل هذا الحديث العظيم على ثلاث فقرات: الأولى قوله: “إنّك لن تَدَعَ شيئًا”، وهذا لفظ عام يشمل كلّ شيء يتركه الإنسان ابتغاء وجه الله تعالى، والفقرة الثانية قوله: “لله عزّ وجلّ” فهذه الجملة بيَّن فيها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ الترك لا بدّ أن يكون ابتغاء مرضاة الله، لا خوفًا من سلطان أو حياء من إنسان أو عدم القدرة عليه أو غير ذلك، وأمّا الثالثة فقوله صلّى الله عليه وسلّم: “أبْدَلَهُ الله خيرًا منه”، فهذه الجملة فيها بيان للجزاء الّذي يناله مَن قام بذلك الشّرط، وهو تعويض الله للتّارك خيرًا وأفضل ممّا ترك، والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك أو من غير جنسه، ومنه الأُنس بالله عزّ وجلّ ومحبّته، وطمأنينة القلب، وانشراح الصّدر، ويكون في الدّنيا والآخرة، كما علّم الله المؤمن أن يدعو فيقول: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً}، قال قتادة السدوسي “لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس به إلّا مخافة الله عزّ وجلّ، إلّا أبدله في عاجل الدّنيا قبل الآخرة”، وأخرج الشّيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيّئة فلا تكتبوها عليه حتّى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف”.والأمثلة الّتي تبيّن عظيم خلف الله تعالى لعباده كثيرة جدًّا، منها ما قصّه الله تعالى عن نبيّ الله سليمان عليه السّلام في سورة ص، وخلاصته: أنّه كان مُحبًّا للجهاد في سبيل الله، ولذلك كانت عنده خيل كثيرة، وكان يحبّها حبًّا شديدًا، فاشتغل بها يومًا حتّى فاتته صلاة العصر، فغربت الشّمس قبل أن يصلّي، فأمر بها فردّت عليه، فضرب أعناقها وعراقيبها بالسّيوف إيثارًا لمحبّة الله عزّ وجلّ، فعوّضه الله عزّ وجلّ خيرًا منها، وهي الرِّيح الّتي تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب، تقطع في النّهار ما يقطعه غيرها في شهرين، يقول الحقّ سبحانه: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}.ومن ذلك، لمّا هاجر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه تركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فعوّضهم الله بأن جعلهم قادة الدّنيا وحكّام الأرض، وفتح عليهم خزائن كسرى وقيصر، ومكّنهم من رقاب الملوك والجبابرة، هذا مع ما يُرجى لهم من نعيم الآخرة، فشكروا ولم يكفروا، وتواضعوا ولم يتكبّروا، وحكموا بالعدل بين النّاس، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}.ولنتأمّل قصّة أحد أولئك المهاجرين، صهيب الرومي رضي الله عنه، فإنّه لمّا خرج مهاجرًا تبعه بعض أهل مكة، فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سهمًا، ثمّ قال “لا تصلون إليَّ حتّى أضع في كلّ رجل منكم سهمًا، ثمّ أصير بعد إلى السّيف فتعلمون أني رجل، وقد خلفتُ بمكة قَيْنَتَينِ (جاريتين) فهما لكم”، ونزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله}، فلمّا رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “رَبِحَ البيع أبا يحيى، ربح البيع”.وهذا نبيّ الله يوسف عليه الصّلاة والسّلام عرضت عليه المغريات في أرقى صورها، فاستعصم فعصمه الله، وترك ذلك لله عزّ وجلّ، لأنّ الله جعله من المُخْلَصين، وأوذي بسبب ذلك، فاختار السجن على ما يدعونه إليه، فصبر واختار ما عند الله، فعوّضه الله تعالى أحسن العوض، فملَّكه خزائن الأرض، وعلّمه تأويل الرّؤيا، فنِعْم المُعْطِي، ونِعْمَ المُعْطَى، ونعمت العطيّة: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات