المسيلة.. سنوات ضوئية إلى الوراء وتنمية بمنطق" خلف در"

+ -

تعدت فرحة سكان المسيلة، عندما نزل خبر ترقية مدينتهم إلى مصاف ولاية ذات يوم من عام 1974، تلك الفرحةَ التي شهدها الشعب الجزائري سنوات الاستقلال، لكن وبعد عقود من الزمن، لا زالت الكيفية والطريقة التي جعلتها تحظى بترقية من هذا النوع مثار جدل قائم، تحوّل مع مرور الزمن إلى ما يشبه الحق التاريخي الذي يعتقد أهل بوسعادة ولا يزالون يعتقدون أنه انتزُع منهم انتزاعا، بإرادة من مدير تشريفات الرئيس الراحل هواري بومدين آنذاك المرحوم عبد المجيد علاهم، والذي أعطى ذلك “الحق” لمن لا حق لهم.بالعودة إلى تلك الحقبة من الزمن ورصدا لتفاصيل تلك الفرحة التي لم تجد المساحات الرحبة وقتها لاحتوائها ومحاولة إخفاء بعض من ألقها الذي كان باديا على الملامح والوجوه على نظرائهم من الجيران أصحاب التعاسة الذين ورثوا هذا الحق الضائع لأبنائهم للدفاع عنه جيلا بعد جيل، لا يزال فيه مبدأ المطالبة بفك الارتباط عن الولاية الأم يرسم تفاصيل الأيام والشهور السنوات، ويشكل الخيمة التي يجتمع فيها كل الفرقاء، وعادة ما تسقط إذا ما حضر الحديث عنها كل التوجهات والسياسات، إلى غير ذلك من مفردات الاختلاف وما أكثرها، لكن ليتهم يعرفون ويعون ما أفرزته هذه “الهدية المسمومة” من حمم بركانية على من بخسوهم حق التهنئة بهذه الهدية التي، وإن صفت نية مقدمها في ذلك الوقت رحمة الله عليه، فإنه لو كان حيا يرزق اليوم لما توانى في ترديد المثل العربي القائل “ على نفسها جنت براقش”.قصة “براقش” والولاية رقم “28”قصة المثل العربي تقول إنه كان لأحد العرب في إحدى القرى الجبلية في المغرب العربي كلبة اسمها “براقش”، وكانت تحرس لهم المنازل من اللصوص وقطاع الطرق، وكانت تقوم بعملها هذا خير قيام. فإذا حضر أناس غرباء إلى القرية تنبح عليهم وتهاجمهم حتى يفروا منها، وكان صاحب “براقش” قد علمها أن تسمع وتطيع أمره، وإذا ما أشار إليها بأن تسمح لضيوفه بالمرور سمعت وأطاعت، وإن أمرها بمطاردة اللصوص انطلقت كالصاروخ.. وبذلك عاش أهل القرية في أمان وسلام. وفي أحد الأيام حضر إلى القرية مجموعة من الأعداء، فبدأت “براقش” بالنباح لتنذر أهل القرية الذين سارعوا بالخروج من القرية والاختباء في إحدى المغارات القريبة، لأن تعداد العدو كان أكثر من تعداد أهل القرية.. وفعلا خرج أهل القرية واختبئوا في المغارة. بحث الأعداء عنهم كثيرا ولكن دون جدوى، ولم يتمكنوا من العثور عليهم، فقرروا العودة من حيث أتوا، ولما هموا بذلك وفرح أهل القرية واطمأنوا بأن العدو لم يعد موجودا. رأت “براقش” أن الأعداء بدءوا بالخروج فانطلقت في نباح شديد. حاول صاحبها أن يسكتها ولكن دون جدوى.. عند ذلك عرف الأعداء المكان الذي كان أهل القرية يختبئون فيه، فقفلوا راجعين وقتلوهم جميعا بما فيهم “براقش”.قد يسأل البعض “ما علاقة قصة هذا المثل بقصة ترقية المسيلة إلى ولاية؟”، أقول إن هذا المثل يُضرب لمن كانت نيته إسداء عمل حسن للناس فيكون موضع أذى بعد ذلك، وهو ما ينعكس اليوم وبعد مضي زهاء 4 عقود من وسم عاصمة الحضنة بالولاية رقم 28 في سلسلة الولايات، وما غنمته هذه الأخيرة من ميزانيات بآلاف الملايير، المئات والمئات من الإطارات الوافدين من مختلف الرتب، وولاة من كل حدب وصوب، في إطار حركات التنقل المختلفة وحتى في إطار التوازنات الجهوية، برامج فاقت كل التصورات والحدود، زيارات مكوكية لوزراء ورؤساء جمهورية، لا شيء تغير إلا النزر القليل، في ولاية مُسح فيها كل جميل وضاع وجهها القديم في زحام الأزمنة الجديدة، ولم يزدها اسم “الولاية” الذي وُشحت به سوى مزيد من الفوضى، ومزيد من التخلف، وسنوات ضوئية إلى الوراء.تسير اليوم في عاصمة الحضنة، تبحث عن وجه المدينة عندما كانت لا تتعدى مصاف دائرة ككل الدوائر.. شوارع تشع فيها الحياة.. مرافق تحمل عبق الذكريات، مساحات خضراء لم يبق منها إلا صور تدمع لفقدانها الأعين وتدمى لفقدها القلوب.. سياسات وأمزجة مسؤولين قضت على كل نبض فيها.. فضاءات خضراء كثيرة كانت تضاهي تلك التي تقع عليها عيوننا اليوم في بلدان أوروبية، سُويت بالأرض وحلت محلها روائح الزفت والإسمنت والبلاط، فقدت قلبها النابض في لحظة تخطيط مبهمة.. برامج لم تغير من مفاصل المدينة وساحاتها إلا ما تعدى تلك الصورة الباهتة التي نراها اليوم.. مسؤولون استنفروا فيها نزواتهم، وآخرون رحلوا، ومنهم من أنهيت مهامهم، لكن المدينة التي يتباكى البعض اليوم بمنازعتها في حق الولاية، وكثيرا ما زاحموها في هذا الحق الذي كان المقصد منه خيرا تحول إلى شر وأذى، هي الآن وبعد مرور كل هذا الزمن تشكو حالها للعابرين..قصة “ليكول القديم” ومقر الأروقة..المسيلة اليوم تغرق في تعاسة الحاضر وتهرب منه إلى سعادة ضائعة من صدى الماضي، مازال بعض من عاقروا مقاعد الدراسة في “ليكول القديم”، كما يقال، يذكرون إلى اليوم أن ذلك الصباح السبعيني البارد عندما أمر والي تلك الحقبة بهدم المدرسة القديمة، ذكرى من عبق الماضي، معلنا عن إنجاز مقر للأروقة في مكانها، لم تقم منذ ذلك التاريخ قائمة للتربية والتعليم في الولاية، واعتبر البعض أن مهازل القطاع في أيامنا هذه، ورفض الولاية في التزحزح عن ذيل الترتيب، نذير شؤم يعود إلى ذلك اليوم السبعيني البارد الذي هُدمت فيه المدرسة.. كان الوالي حينها يهدم الجدران لكنه لم يكن يدري أنه يهدم تاريخا بأكمله، هذا ما جنت على نفسها “براقش” وجناه سكان ولاية خابت آمالهم في “الولاية”، وتمنوا أن فرحتهم لم تكن بذلك الحد الجارف الذي لم يكن يضاهيه سوى فرحة الاستقلال، يرددون اليوم: كانت الدائرة أبهى وكان الوجه مضيئا كالوطن تسكنه الذكريات، أين كل هذا اليوم؟كتل الإسمنت الزاحف لكل مكان، تنمية معطلة وأخرى مشوهة، شوارع بلا روح، أحياء غارقة في العتمة، مداخل قروية بامتياز توحي للزائر بأنه في رحلة بصدد الدخول إلى دوار، كأنه دوار ظل يكبر ويكبر، حتى قضى على روح المدينة، ومسح كل ما كانت تحمله من ألق وعنفوان.. مدينة باتت بلا ماضي بعدما أضاعت وجهها في زحمة الفرحة بالولاية، وتاهت في الأرقام الكاذبة والأحلام الوردية وسياسات “التراب المتحرك”، ومدرسة لتقلين المسؤولين، وما أكثرهم، دروس “الحفافة” في رؤوس اليتامى كما يقال.ويتحدى الغيورون على المدينة أن يتم إظهار العكس، وإثبات على الأقل وبالصور والشهادات، المسيلة التي كانت “دائرة” قانعة ذات بهاء جميل.. مقر البريد القديم، روائح الورد الزكية في كل مكان، ومقر الدائرة القديم قبالة ساحة الشهداء، زخم التاريخ وعبق التراث الأصيل، ومقر البلدية، رمز المدينة وملتقى الأهل والخلان، وكيف أضحت اليوم بعد ما جنى عليها “براقش” هذا الزمان، وما أكثرهم، فنزعوا عنها قلبها النابض وحولوها وقذفوا بها في أتون الموت والخراب.في مشهد مغاير لما يحدث اليوم.. مشهد لجحفل بشري يمر من على ناصية الشارع، وآخرون يغلقون الطريق العام، رافعين شعار “نطالب بترقية مدينتنا إلى ولاية”.. بعد 4 عقود سكان المسيلة يرفعون شعار “خذوا الولاية وأرجعوا لنا رائحة الورد العطرة والاخضرار إلى شوارع مدينتنا”..

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات