+ -

عاد الهدوء إلى أغلب المدن التونسية، بعد أسبوع من الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها أغلب مناطق الجنوب والجنوب الغربي، ووصلت إلى العاصمة تونس، هدوء حذر لم ينه حالة الاحتقان، لكن المخاوف مازالت قائمة بشأن إمكانية أن تتجدد الاحتجاجات، باستمرار الأسباب ذاتها التي فجّرت الغضب الشبابي في القصرين وما جاورها. الطريق نفسه إلى القصرين كما كان قبل خمس سنوات لم يتغير إلا قليلا، ومدخل المدينة المشحونة بالغضب نفسه أيضا، شيء من القلق مرسوم على وجوه الناس في المقاهي التي تعد أفضل مشروع يمكن إنشاؤه في المدينة، والمهرب الرئيسي للمئات من العاطلين عن العمل، الذين طال انتظارهم منذ خمس سنوات، لم تتحقق مطالبهم الرئيسية التي تخص الشغل، وقد كان الشغل أبرز شعارات ثورة جانفي 2011. “الشغل استحقاق يا عصابة السراق”، في نظر وجدي الخضراوي، المتحدث باسم العاطلين عن العمل، فإن نظام الحكم تغير وتعاقبت حكومات على تونس ما بعد الثورة، لكن لا المدينة أخذت حقها من التنمية والمشاريع الإنمائية، ولا الشباب وجد لنفسه فرصة عمل، ولا السكان تلمسوا تغييرا في واقعهم المعيشي، لذلك يقول وجدي “قررنا أن ننتصر لأنفسنا بكل سلمية”، مضيفا “هذه المرة ليس لدينا استعداد لتقبل الوعود الوهمية التي تبيعها لنا الحكومة في كل مرة، مطلبنا الأساسي الحق في التشغيل كحق دستوري”.منذ أكثر من أسبوع يعتصم المئات من العاطلين عن العمل أمام مقر ولاية القصرين، اعتصامات سلمية، لكن الوضع ليس نفسه في المدينة، ففي حي الزهور، وهو أفقر أحياء المدينة، تتجدد المواجهات منذ الأحد ما قبل الماضي بين المحتجين وقوات الأمن، مظاهر المواجهات والعجلات المحروقة مازالت واضحة في الشوارع والطريق الرئيسي، ومخزون الغضب الذي يتدفق في المدينة منذ خمس سنوات ويتجدد بين الفترة والأخرى، ومع ذلك تحاول قوى المجتمع المدني السيطرة وتأطير الغضب الشبابي لضمان تحقيق المطالب الاجتماعية دون تخريب أو فوضى، ومنعا لما يوصفون بالمندسين لتخريب المسار السلمي للاحتجاجات التي لم تنفع قرارات الحكومة في لجمها.ليست القصرين وحدها، وهي أبرز مدن الثورة، وتقع على بعد 50 كيلومترا من مدينة تبسة، من تغرق في مشكلات الفقر والتنمية والبطالة، لكن الوضع نفسه في مدن الجنوب، فخلال العقود الخمسة الماضية، أهملت سياسات النظام السابق مناطق الجنوب والجنوب الغربي، برغم توفرها على ثروات طبيعية كالنفط والغاز والفوسفات والحَلفاء والزيتون وغيرها، وركز مشاريع التنمية في مدن الساحل، وضعٌ خلق اختلالا كبيرا في مستويات التنمية، عجزت حكومات الثورة عن إصلاحه حتى الآن، إذ تشير الأرقام الرسمية في تونس إلى أن نسبة البطالة بلغت، السنة الماضية، حدود 16 في المائة، لكنها ترتفع بضعف ذلك عندما يتعلق الأمر بمدن الجنوب، وبلغ مجموع العاطلين عن العمل ما يقارب السبعمائة ألف عاطل، بينهم أكثر من مئتي ألف من خريجي الجامعات الحائزين على شهادات عليا، يتمركز أغلبهم في مدن الجنوب، معضلة لم تجد لها الحكومات المتعاقبة حلا ولا جزءا من الحل. لكن هذه الأرقام تشير أيضا إلى تباين كبير عندما يتعلق الأمر بمدن الثورة في الجنوب، فـ50 في المائة من سكان هذه المدن لا يتمتعون بالماء الصالح للشرب وقنوات الصرف الصحي، وترتفع نسب الانقطاع عن الدراسة فيها، وتعاني من غياب المشاريع الاستثمارية.هذا الوضع دفع قوى المجتمع المدني في مدن الجنوب إلى إجراء دراسات ميدانية وحصر مشكلات المناطق الجنوبية، ووضعها أمام الحكومة لتحميلها المسؤولية، إذ نجحت هيئات مدنية، في منطقة القصرين، في تقديم ملف كامل عن المنطقة، كمنطقة ضحية لسياسات النظام السابق، إلى هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بإنجاز العدالة الانتقالية وتعويض ضحايا القمع والأنظمة السابقة قبل الثورة، والمطالبة بتعويضات جدية لصالح سكان المنطقة في صورة مشاريع إنمائية، لكن هكذا مطالب تصطدم مع وضع اقتصادي ومالي صعب بالنسبة للحكومة التونسية، ناهيك عن المجهود الأمني الذي بات يرهق موازنة الدولة في تونس، وهو ما دفع بالرئيس، الباجي قايد السبسي، ورئيس الحكومة، الحبيب الصيد، إلى مطالبة سكان مدن الجنوب بتفهم الأوضاع وبمزيد من الصبر.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات