+ -

 المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، المرأة التي صنعت الحدث هذه السنة، عندما أضافت إلى الإنجازات الكبيرة التي حققتها لألمانيا على مدى العهدات الثلاث، التي قضتها على رأس الدولة عملا لبلدها، فسره ذوي المصفوفة التبسيطية من العرب عملا خيريا طيبا، وفسره المعارضون على أنه ضار بألمانيا من ناحية الأمن والاقتصاد، إنها قضية استقبال اللاجئين السوريين، التي تدعونا إلى التساؤل، حول ما إذا كان قرار انجيلا استعجاليا ومباشرا، أم أن ما فعلته ميركل يمكن اعتباره معرفيا من أولى نتائج تجليات تأنيث السياسة في عالمناالمعاصر؟ انجيلا ميركل، ”فتاة كول” كما كان يحلو للصحافة الألمانية مناداتها، تمثلا بالمستشار الألماني السابق ”هلموت كول”، الذي كان يخاطبها بعبارة ” فتاتي”، هي عالمة متحصلة على شهادة الدكتوراه في فيزياء الكم، بدأت عملها في أحد مختبرات ألمانيا الشرقية، ثم انتقلت للعمل في أكاديمية العلوم ومجال البحوث، وانضمت في هذه الفترة بعد الوحدة الألمانية إلى الحزب المسيحي الديمقراطي، وبدأ نجمها يسطع شيئا فشيئا كامرأة قيادية في الحزب، إلى غاية أن عينها كول وزيرة للمرأة ثم البيئة، وقد تميزت ميركل بعقلانية محضة وبراغماتية لا تعرف حدودا، وعلى الرغم من مبادئها الليبرالية القريبة من النموذج الأمريكي، فإنها عملت بحكمة على التكيف مع توجهات غالبية الناخبين الألمان، الذين يفضلون اقتصاد السوق الاجتماعي، حتى تضمن غالبية مريحة في دوائر ومؤسسات صنع القرار، ولمن شاء اختزال ذلك كله ظاهرا، عليه أن يركز على طريقة مشي ميركل الاستثنائية، تلك المشية المتسارعة والجدية والمقبلة، التي ترى فيها مع كل خطوة توقدا في الذهن، وتصميما في الإرادة، ووضوحا في الهدف، إنها تذكرني بالآية الكريمة من سورة لقمان ( واقصد في مشيك).إن امرأة بهذه المواصفات لا يمكن أن تتخذ قرارا سياسيا بحجم استقبال ذلك العدد الكبير من اللاجئين دون حسابات سياسية واقتصادية دقيقة، وأبعاد براغماتية بحتة ومركبة غير واضحة للعيان، لاسيما عند من اعتاد على اللعبة الصفرية الغبية في حسابات الربح والخسارة. إن قرار ميركل وفقا للمعطيات الديموغرافية في ألمانيا، هو القرار الأصوب تبعا للمصالح العليا لألمانيا، فشيخوخة السكان قنبلة موقوتة في هذه الدولة، وهي تهدد القوة الاقتصادية الأكبر في أوروبا، بمعدل خصوبة يعد الأكثر انخفاضا في العالم، ومتوسط عمر يعتبر الأكثر ارتفاعا، ومن ثم يمثل العامل الديموغرافي الخطر الأكبر الذي يهدد قوة الاقتصاد الألماني مستقبلا، فألمانيا التي تشيخ اليد العاملة فيها، وتتراجع بسرعة حسب توقعات المكتب الفدراليى فيها للإحصاءات، الذي يؤكد بأن في ألمانيا 50 مليون شخص في سن العمل، تتراوح أعمارهم ما بين 20 و50 عاما، وهي نسبة ستنخفض إلى 36 مليون شخص بحلول عام 2060، كما لفتت ”إريكا شولز” الباحثة في معهد الأبحاث الاقتصادية الألماني ”دي آي دبليو”، أن نسبة الولادات لا تتخطى في ألمانيا 4،1 طفل لكل امرأة، ومن دون الهجرة لا يشكل الجيل القادم إلا ثلثي الجيل الحالي. وبحسب الإحصاءات من المتوقع أن يستمر سكان ألمانيا في الانخفاض بحلول العام 2060 ليصل إلى 65 و70 مليون نسمة، بحسب مكتب الإحصاءات، علما أن ألمانيا هي حتى اليوم الدولة التي تضم أعلى كثافة سكانية في أوروبا.وفي ظل هذه المعطيات فإن انجيلا ميركيل بقرارها ذاك تبدو وكأنها زرقاء يمامة ألمانيا أو بالأحرى زرقاء ألمانيا، بعيدا عن انجيلا الطيبة، والأم أنجيلا. أما المعلقين على قرارها باستقبال اللاجئين أو المعارضين لسياستها فإنهم أحد اثنين، إما من مغفلي العرب الذين ينسبون ذلك إلى طيبتها/ وهي الراعية الأولى للمصالح العليا لدولتها/ حيث لا حسن نية ولا طيبة في السياسة، أو رؤية ذكورية تبقى في عمومها تعاني من قصور على المدى البعيد/ مهما بلغت حدتها الذهنية وبراغماتيتها على المدى القريب، إنه الفرق بين القيم الذكورية والأنثوية، وهنا تكمن مدى أهمية تأنيث المؤسسات السياسية/ إنها حكمة الأنثى عندما يضاف إليها القدرة على التجريد والتحييد في صنع القرار/ بعيدا عن العواطف والتحيزات الاستعجالية مهما كان مصدرها، إنها حكمة بلقيس ورؤية زرقاء اليمامة، التي عرفت أيضا بزرقاء بني نمير/ وأنها كانت تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وتنظر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام.تذكرني قصة هؤلاء المستعجلين من الطرفين بحكاية سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام؛ حيث بدا ظاهر ما كان يفعله الخضر مناقضا بإبعاد وحقيقة القرار الذي يتخذه، بسبب جهل موسى بالخلفية التي كان ينطلق منها الخضر، كما جاء في سورة الكهف (كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا)، (سأنبئك بما لم تستطع عليه صبرا) وسينبئ المستقبل معارضي انجيلا ومغفلي العرب، بأن ما فعلته يتوافق مع المصالح المستقبلية العليا للدولة لا أكثر، إنه المفهوم الحقيقي للأنوثة التي ينبغي أن تمتد في دوائر صنع القرار، امتداد رؤية زرقاء ألمانيا لثلاثة عقود قادمة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات