+ -

 إنّ الخلق العظيم الّذي أبدعه الخالق جلّ شأنه، والّذي خضعت له رقاب العباد، وسجدت لإعجازه عقولهم، وانبهرت له قلوبهم، وسبّحت بجلاله ألسنتهم، يعلّل الله خلقه لهذا الخلق في غير ما آية كريمة باختبار العباد هل يحسنون عملاً؟ [وتعليل فعل بعلّة لا يقتضي انحصار علله في العلّة المذكورة، فإنّ الفعل الواحد تكون له علل متعدّدة] كما في قوله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وقوله جلّ وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وقوله عزّ شأنه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.ومن نافلة القول التّنبيه على أنّ الابتلاء، أيّ اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله، هو مستعمل هنا كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات، لأنّ حقيقة البلو والاختبار مستحيلة على الله لأنّه العليم بكلّ شيء، فلا يحتاج إلى اختباره. إذن فمن حكمة خلق الأرض والسّموات ظهور تفاوت أعمال العباد حُسنًا وإحسانًا؛ لذا كان من أهم أسس التّديّن ومرتكزاته أن ينقل المتديّن صُعُدًا في درجات الإحسان.فالتّديّن في حقيقته هو تحوّل من سيّئ إلى حسن، ثمّ من حسن إلى أحسن، في الأقوال والأعمال والأحوال والصّفات والأخلاق، وبقدر تحسّن حال المرء فيما ذكر بقدر ما يزداد تديّنًا، أمّا التّغيّر الظّاهري من غير هذا التّحسّن فلا معنى له. فلا نعجب بعد ذلك لمكانة المحسنين عند الله حيث تكرّر قوله سبحانه مدحًا لهم ورفعًا لقدرهم: {.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، {.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}، {وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}... الخ.ولا عجب بعد ذلك أن نجد سيدنا وحبيبنا إمام المتديّنين وقدوتهم صلّى الله عليه وسلّم، يقرّر تقريرًا صريحًا بيّنًا، فيقول عليه السّلام: «إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتلتُم فأحسِنُوا القِتْلَة، وإذا ذبَحتُم فأحسِنُوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه فلْيُرِحْ ذبيحتَهُ» رواه مسلم. فالمؤمن مطالب بالحرص على أن يحسن في كلّ شؤونه، وإنّما ذكر القِتلة والذّبحة لكونهما من أكره الأشياء إلى الإنسان، فذكرهما إيغالًا في تأكيد شمول الإحسان وعمومه!. الّذي يبدأ من أقرب النّاس: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، ويصل إلى أبعدهم: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. ويشمل بين ذلك كلّ المخلوقات: جماداتٍ وحيوانات وبشرًا.ثمّ إنّ من معاني الإحسان: الإجادة والإتقان، وهذا معنى عظيم آخر من معاني التّديّن، ومرتكز أساس من سلوك التّديّن، فالأصل في المتديّن إذا قام بعمل ما من أعمال الدّين أو الدّنيا أن يؤدّيه على أكمل وجه؛ لأنّه يُراقب الله فيه، ويحرص على نيل رضاه وحبّه سبحانه بإتقانه.مراقبة الله عزّ وجلّ هي ذروة الإحسان كما جاء في الحديث الشّهير: فَأَخبِرنِي عن الإِحسانِ؟ قال: «أنْ تعبُدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تَكُنْ تراهُ فإنَّهُ يَراكَ» رواه مسلم، فالمتديّن يتقن عمله ويحسنه لله وحده لا خوفًا من المراقبة والمعاقبة القانونية أو غيرها. كما أنّ المتديّن يسعَى دائمًا لنيل محبّة ربّه عزّ وجلّ؛ وإتقانه عمله وإحسانه أحد السّبل المحقّقة لذلك، ففي الحديث الشّريف: «إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى يُحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكمْ عملًا أَنْ يُتْقِنَهُ» رواه البيهقي.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات