القصبة.. صرح تاريخي يبحث عمن يعيد له الروح

+ -

 تحتفظ القصبة بذاكرة الجزائر لعدة قرون، يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من 2000 سنة مضت، شيدت على أطلال المدينة الرومانية ”إكوزيوم”، وبنيت من طرف الأمير بولوغين بن زيري بن مناد الصنهاجي. وبعد دخول الأتراك العثمانيين إلى الجزائر، أكملوا بناء القلعة وأصبحت قلعة صامدة أمام الأعداء ومقصد الزوار من كل الأقطار، وبقيت نموذجا للعمران، لكنها تعاني في السنوات الأخيرة الإهمال وغياب مخطط فعال لحماية هذا الموروث التاريخي والمعماري الفريد، الذي تم تصنيفه من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تراثا إنسانيا عالميا في عام 1992.تشتهر قصبة الجزائر بعدة كنوز ما زال بعض منها يشهد لها بالعطاء الكبير منها مساجد، وعيون، وقصور، وزوايا، إذ تقدر عدد العيون التي كانت بها قبلا 150 عين بقي منها سبع عيون فقط، استطاعت مقاومة عوامل الزمن والبشر، إضافة إلى قصور عدة، منها قصر ”عزيزة”، وقصر ”حسن باشا”، وقصر ”خداوج العمياء”، وقصر ”الدار الحمراء”، وقصر ”الرياس”، و18 زاوية، في كل واحدة مصلى تجمع الناس لإقامة الصلاة وسماع دروس الموعظة والإرشاد، أكبرها زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي.الوافدون الجدد ومؤسسات الترميم وراء تدهور القصبةتنقلت ”الخبر” بمختلف أزقة القصبة، وجست النبض على ما تبقى من سكانها الأصليين، بعد أن غادرها معظمهم، فمنهم من خرج طواعية وباع مسكنه، ومنهم من شملتهم عمليات الترحيل التي عرفتها العاصمة، والبعض الآخر ترك المنازل وأهملها بعد أن بقي منها سوى الأطلال.عرفت قصبة الجزائر عدة مشاريع ترميمية بعد الاستقلال مباشرة، وبالضبط منذ سنة 1967، تكفلت بها عدة مؤسسات محلية. في هذا الصدد قال الأستاذ والباحث في التاريخ والآثار محمد بن مدور، إن هذه المؤسسات لم تستطع إحداث أي تغيير ايجابي للقصبة، بالعكس تآكل أغلب ما تبقى من المنازل جراء عوامل الزمن، والبعض الآخر هدمتها أيادي المرممين غير المؤهلين: ”هناك مؤسسات غير مؤهلة لأعمال الترميم، لكنها تتكفل بذلك، أعمال غير مبنية على قواعد الترميم المعمول بها عالميا، وهي مسؤولية مقسمة بين وزارة الثقافة وولاية الجزائر، فالمؤسسات التابعة لوزارة الثقافة لا دخل لها في عمليات الترميم”.حصر بن مدور دور وزارة الثقافة في حق النظر والوقوف على عمليات الترميم، وقال:  ”لكن لا دخل لمصالحها في عمليات الإصلاحات التي يجب أن تشرف عليها مصالح ولاية الجزائر”، مضيفا ”يجب تأسيس مشروع مدرسة بداخل القصبة، كما يجب تفريغها كلية، لأنها كلفت الكثير للجزائر، وحاليا ميزانية الدولة غير مستعدة لصرف المزيد من الأموال.. فبمجرد القول إنه تم تقديم 12000 شقة منذ 1985 إلى غاية 2013، فهذا شيء جد معتبر”.وأكد بن مدور أن الدولة خصصت مبلغ 9200 مليار لإعادة ترميم هذا الحصن التاريخي، متسائلا عن مصير تلك الأموال، مع بقاء القصبة تعاني، وتعجب من التدهور السريع لبناياتها وكيفية وجود 15000 سكن بها خلال الفترة العثمانية، حسب ما كتبه ابن خلدون والوزاني وآخرون، وتناقص عددها خلال الفترة الاستعمارية بعد تعرضها للهدم وتوسيع الطرقات، فقد تم إحصاء في 1830 حوالي 8000 ”دويرة”، ومن 1962 إلى غاية 2012، بقي 533 مسكن فقط، والبقية اندثرت وتهدمت، مشيرا إلى وجود 151 منزل ”وقف”، ما يستدعي تدخل وزارة الشؤون الدينية للحث على ترميمها، إضافة إلى 900 مساحة فارغة هدمت منازلها كلية، و187 منزل مهداة، و893 منزل أو ”دويرة” فارغة، وبقي بها 292 من الملاك الأصليين.وفي سياق متصل، اعتبر بن مدور أن الرقم الذي تقدمه السلطات بشأن المنازل الموجودة بالقصبة، التي قدرتها بـ 1816 ”دويرة”، بمنزلة تغليط للرأي العام هدفه تبرير مصير الأموال المقدمة للترميم، التي صرفت دون تحقيق أي نتيجة إيجابية، وقال: ”العدد الحقيقي هو 1523 منزل، والبقية هي منازل استعمارية”. السكان رفضوا عمليات الترميم بسبب رداءة الأشغالتأسف الأستاذ بن مدور للسياسة التي انتهجتها مختلف المؤسسات المكلفة بعمليات الترميم، التي استفادت من غلاف مالي لترميم القصبة، فقد كان يجدر بها البدء بالأشغال الإستعجالية، في حين قامت بتقسيم العملية إلى قسمين، الخطة الاستعجالية وهي البدء بالمنازل الأكثر تضررا، في الوقت نفسه البدء بالترميم بصورة تدريجية، وقال المتحدث ذاته: ”في الحقيقة، القصبة كلها في حالة استعجاليه.. لماذا يتم تقسيم هذه الأموال؟ خاصة وأن الأموال صرفت كلها في الخطة الإستعجالية وعمليات الترميم لم تبدأ والأموال نفدت”.أصر محدثنا على ضرورة إعادة ترميم القصبة من قبل مختصين أجانب، وتعميم ذلك على كل قصبات الجزائر، وهي الوسيلة الوحيدة لإنقاذ القصبة، وقال: ”هناك عدد كبير من الجمعيات فاق المائة الموجودة في القصبة، لكنها تتكفل بالحفلات ورعاية المناسبات الدينية والوطنية”، مضيفا ”هي جمعيات من المفروض أن تساهم مع المؤسسات المختصة بالترميم ليقوموا بوضع البرامج، لكنهم يتكفلون بالأعراس والحفلات والمناسبات الوطنية عوض تقديم الإحصائيات ومساعدة المؤسسات المختصة، والنتيجة نراها الآن؛ إذ ليس هناك تطور ملموس، فالقائمون على الترميمات اليوم زادوا من تحطيم القصبة وغلق مختلف شوارعها بالأشغال العشوائية، فالقصبة معروفة منذ زمن وشوارعها ليست للسيارات، بل كانت تنقل مواد البناء بالحمير، والآن هناك منازل هدمت لتوسيع الطرقات ومنازل تكسرت، وعوض ترميمها يتم رمي بقايا المنازل الأخرى فيها، وهي عملية دفن التاريخ بأتم معنى الكلمة”، ويضيف ”هناك أصحاب منازل في القصبة رفضوا قيام السلطات بعمليات الترميم، لتأكدهم الكبير من أن الترميم الذي يتم لا يجدي نفعا، بل زاد من تفاقم الوضع على ما هو عليه.. عدة منازل عرفت تشويها، وليس ترميما، لأن الترميم غيّر من طبيعة المنزل كلية، وهناك من رمم منزله بنفسه خوفا أن تطاله أيادي المرممين غير المؤهلين”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات