+ -

 ها قد رحل عنا الحاج يوسف حمروش، المجاهد وابن الشهيد، والمكافح العنيد في معركة البناء والتشييد.. رحل دون أن يخبرنا عن رحيله، كما اتفقنا، وأخلف وعده لي بأن يخبرني حين يرحل عن هذه الحياة قبل رحيله، ولكنه أخلف وعده، وما عهدته يخلف الوعد قبل هذا.قلت له ذات يوم، رحمه الله، مازحا.. إذا رحلتُ قبلك إلى دار الحق سأخبرك عن الرحيل بـ24 ساعة، ليحضّر نفسه لرثائي.. فأنا كثير المثالب قليل المناقب، وسأتعبك في البحث عن بعض خصالي القليلة التي تذكرها لي في سياق “أذكروا موتاكم بخير”.. أما إذا مت ورحلتَ قبلي عن الحياة، فبالتأكيد أنني لن أجد صعوبة في رثائك.. فأنت تسمو بسلوكك فوق مستوى البشر لتصبح ملاكا يسعى على رجليه، فأنت فارس الجهاديين.. جهاد التحرير وجهاد التنوير.عرفته، رحمه الله، عاملا على آلة الرصاص في مطبعة بن بولعيد، ومطبعة “الشعب”، دائب العمل في تواضع وصمت.. ينأى بنفسه دائما عن صراعات العمال مع الإدارة، شديد الدقة في إنجاز ما يعهد به له من عمل رغم صعوبة الوسط الذي يعمل فيه.. توطدت العلاقة أكثر عندما تولى هو مدير المصلحة التقنية في مطبعة “الشعب”، وتولى الزميل محفوظ قرباح شؤون الإدارة، وابتليت أنا بمسؤولية التحرير في عهد المدير العام المرحوم كمال عياش (سنة 1984).في هذه الفترة تم نقل جريدة “الشعب” من القبو في أنفاق ساحة موريس أودان إلى ثكنة عسكرية في حسين داي.. كان المرحوم حمروش يوسف (عبد الرحمان) يقع عليه العبء الأكبر، لأنه كان المدير التقني، فكان ينجز جريدتين كاملتين في اليوم، واحدة بالرصاص في ساحة موريس أودان، والثانية بآلات التصوير الضوئي الحديثة في حسين داي، ونفعل ذلك حتى لا تغيب الجريدة عن الأكشاك، إذا لم نستطع التحكم في الإنجاز بالآلات الحديثة.. كان، رحمه الله، يبيت في المطبعة حتى الرابعة صباحا.. وكنت مجبرا على مرافقته كمسؤول للتحرير.. وأذكر أنه وقرباح احتاجا إلى الذهاب للاستحمام والحلاقة.. لأنهما كانا في الغالب لا يحلقان ذقنيهما ولا يجدان الوقت للاستحمام بسهولة بسبب حكاية إيصال الليل مع النهار في العمل.لن أنسى، أيها الراحل من دون إذن، كما اتفقنا، أن هذا العمود الذي أرثيك فيه اليوم، هو أول عمود تم جمعه بالتصوير الضوئي في المطبعة الحديثة التي اقتنتها “الشعب” آنذاك وانتقلنا بها من عهد الجمع بالرصاص إلى عهد الجمع الضوئي.. وكانت أناملك هي أول من ضغط على أزرار الجمع الضوئي للحروف في هذه المطبعة!هل من الصدفة التاريخية أيها الراحل العزيز أن أخاك محمود، رحمه الله، هو أول من حمل جريدة “المجاهد”، اللسان المركزي لجبهة التحرير، في تونس سنة 1956، على أكتافه ووزعها على المناضلين والجنود في الحدود الشرقية.. وأن أخاك مولود، أطال الله عمره، هو صاحب الفضل في ظهور الصحافة المستقلة في بداية التسعينيات، عندما كان رئيسا للحكومة.. وهي الصحافة التي أصبح بعضها اليوم قلاعا للحرية، وها أنا أرثيك على صفحات هذه القلاع! هل من الصدفة أيضا أن تكون أنت أيضا أول من ينقل الحرف العربي من الرصاص إلى التصوير الضوئي الحديث؟!لا أقول لك نم قرير العين، فأنا أعرف أنك رحلت عن هذه الحياة احتجاجا على ما آلت إليه الأوضاع في هذه المهنة، التي أحببتها وقضيت فيها نصف عمرك، وقتلتك مآسيها بالضغط الدموي.رحمة الله عليك..

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات