مما لا شك فيه أن الأزمة المتجددة بين العربية السعودية وإيران، والتي برزت من خلال حادثين أساسين شكلا الفتيل الذي أدى إلى إحداث قطيعة كانت متوقعة من قبل تمثلا في إعدام رجل الدين المعارض الشيعي الشيخ نمر باقر النمر، والاعتداء على السفارة السعودية بطهران، أعمق من ارتباطها بالحادثين، لأن سرعة التصعيد والقطيعة التي بلغت حد قطع العلاقات الدبلوماسية بينت بأن هناك استعدادا مسبقا للطرفين المتصارعين، نتيجة تراكمات تمتد لسنوات وخلفيات حرب مواقع صامتة وحرب باردة، تتحول عبر ملفات خلافية إلى حرب ساخنة بالوكالة، هدفها ضمان التموقع كقوة جهوية وإقليمية نافذة، بمصالح متعددة. حين أقدمت العربية السعودية على إعدام الشيخ النمر، عمد صنّاع القرار السعودي إلى إرسال رسائل محددة للخصم الإيراني تحديدا، في ظرف إقليمي متموّج، مع إدراك الرياض بحدوث رد فعل سريع لطهران، وبروز التناقضات “الكامنة” في بنية النظام السياسي الإيراني بين التيارين المحافظ والإصلاحي، واستغلال الأول الوضعية للتأثير على الأحداث، لمزيد من التصلب في المواقف على حكومة حسين موساوي، فقد عمدت العربية السعودية إلى إعدام “المعارض الشيعي المثير للجدل” بعد سجنه لسنوات مع قائمة من المعتقلين الآخرين وعددهم 46 معتقلا، أغلبهم من “السنة”، لكنهم متهمون بالقيام بأعمال إرهابية وبالقرب من تنظيم القاعدة، بل ضمت القائمة فارس آل شويل الزهراني، وهو أبرز منظري تنظيم القاعدة في السعودية، وكان اسمه مدرجًا في قائمة الـ26 التي صنفت من قبل الرياض كأكثر العناصر خطورة على الأمن القومي السعودي، ومن ثم فإن رسائل الرياض تضمنت ما يلي:1- تلازم صفة الإرهاب بين المقربين من إيران التي اعتبرت في عرف السعودية، بعد تشكيلها لما يعرف بالائتلاف الإسلامي لمحاربة الارهاب، ضمن الدول الراعية للإرهاب، مع ضم أهم حلفائها حزب الله في القائمة المستهدفة، وبالتالي فإن التعامل بين القاعدة وإيران وفق الرسالة السعودية مماثل.2- إبداء الحزم الكامل للسلطة السعودية يرمي إلى تدعيم موقع الملك الجديد سلمان الذي عانى من تجاذبات داخلية بعد اعتلائه للعرش، حيث بدا واضحا أن الرياض تميل إلى الحسم مع خصومها، وهو ما اتضح مع التصعيد الحربي أيضا في اليمن ضد أنصار الله وأنصار الرئيس السابق علي عبد الله صالح، رغم كلفة النزاع وعدم إحراز مكاسب كبيرة في الميدان بعد قرابة سنة من الحرب.3- الرد بطريقة غير مباشرة على رسالة إيرانية سورية، من خلال مقتل قيادة الجيش الإسلامي في سوريا وعلى رأسهم قائده زهران علوش المقرب من الرياض، في ديسمبر 2015، حيث سارعت الرياض لتعيين البويضاني الملقب “أبو همام” لتفادي تفكك التنظيم، والتأكيد على المشاركة في مسار المفاوضات الخاصة بالتسوية السياسية في سوريا.4- التشديد على تحجيم المعارضة الشيعية في القطيف ذات الأغلبية الشيعية في السعودية، فبعد سياسة “العصا والجزرة”، من خلال محاولة استمالة النخب وشريحة من شيعة القطيف، بدا واضحا أن الرياض انزعجت من تنامي دور النمر الذي سبق أن اعتُقل عدة مرات بداية من مارس 2009، بعد انتقاده للحكومة السعودية على خلفية المواجهات في البقيع بين متظاهرين سعوديين شيعة وقوات الأمن السعودي، وفي تلك المرحلة بدأت ملامح ثورة “الأغلبية الشيعية” في البحرين تقوض مضاجع الرياض، فيما برزت مخاوف من سيناريو انفصال القطيف والإحساء وتشكيلها دولة شيعية مع البحرين المتاخمة لها، وحينما صعّد الشيخ النمر في خطابه ضد الحكومة السعودية، فسارعت لاعتقاله في جويلية 2012 بتهمة “إثارة الفتنة”، وكانت أحداث البحرين حينها في أوجها، وهي التي بدأت تتفاقم في 2011، ثم استدعى الأمر تدخلا عسكريا لما يعرف بقوات درع الجزيرة النظام السياسي البحريني الحليف.وفي الفترة ذاتها دخلت الحرب في سوريا أخطر مراحلها، حيث بدا واضحا رغبة الرياض والحلفاء السعوديين من دول الخليج في زوال حكم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، المصنف كنظام حليف لإيران في المنطقة، إذ برز جليا الدعم العسكري المتنامي لقوى المعارضة المسلحة المشكلة أساسا من جيش الفتح وجيش الإسلام، واتضح أن الملف السوري أضحى يمثل شكلا من أشكال حرب الوكالة بين دول دخلت منطق المحاور والأقطاب، حيث تشكل محور “طهران دمشق بغداد” بدعم روسي منذ التدخل العسكري لموسكو في سوريا سنة 2015، مقابل محور “الرياض أنقرة عمان” بدعم أمريكي غير مباشر، وكانت الأزمة السورية أول خطوط التماس والتصادم بين السعودية وإيران.أما الملف الثاني الذي كان يشكل خط التصادم فكان الأزمة اليمنية التي بدأت أيضا تتفاقم مع إطلاق الرياض عملية “عاصمة الحزم” التي استهدفت دعم حلفائها، ممثلا في نظام الرئيس هادي، في مواجهة أنصار الله أو الحوثيين المدعمين من إيران. وتشكل الحرب اليمنية عامل استنزاف كبير خاصة منذ النصف الثاني من 2015، حيث توسعت جبهات القتال لتشمل مناطق في العمق السعودي وتطوير أنصار الله للقدرات الصاروخية التي تهدد هذا العمق السعودي، وهو ما تعتبره الرياض ردا إيرانيا في مواجهة من تعتبرهم حلفاءها في اليمن. وإذا أضيف لذلك الملف النفطي والوضع في البحرين، إلى جانب تنامي القوة العسكرية الإيرانية التي تهدد الممرات البحرية الرئيسية (باب المندب ومضيق هرمز)، فإن الملفات الخلافية مجتمعةً تشكل دوما حالة احتقان تدفع الرياض وحلفاءها إلى محاولة تحجيم الدور الإيراني، خاصة مع مؤشرات بروز مرحلة تقارب غير مباشر أمريكي إيراني، أو على الأقل تخفيف حدة الخلاف على خلفية تسوية الملف النووي الإيراني، وتقلص أهمية الدور الإقليمي السعودي، وبروز انتقادات للوضع السعودي الداخلي، لاسيما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن ثم شهدت الأزمة المتجددة محاولة سعودية لعزل إيران إقليميا، من خلال استقطاب تأييد حلفائها، إلا أن النتائج ظلت محتشمة، حيث قطعت السودان والبحرين علاقتهما بها، بينما اكتفت الإمارات بتقليص التمثيل الدبلوماسي، فيما قامت الكويت وقطر باستدعاء السفراء للاحتجاج على الاعتداء على السفارة السعودية. أما سلطنة عمان فاكتفت باستنكار الاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، بينما اعتبرت على لسان سفيرها في طهران أن قرار المملكة بقطع العلاقات الدبلوماسية قرار خاطئ ومستعجل وبعيد عن الحكمة.وبعد فترة التصعيد الكلامي، اتجه الطرفان إلى تخفيف اللهجة أحيانا وتصعيدها أحيانا أخرى، مع بروز نوع من التباين، فقد أشارت الرياض إلى استعدادها قبول عودة العلاقات مع إيران إذا عزفت الأخيرة عن التدخل في شؤون الدول الداخلية، فيما قدمت الحكومة الإيرانية ضمنيا اعتذارا باعتبار الاعتداء غير مقبول شرعا وسياسيا. ورغم التهديد بالمقاطعة الكاملة بين الجانبين وتهديدات الجيش الإيراني الذي صعد من لهجته، فإن الحرب الباردة المباشرة ظلت سيدة الموقف، فيما سجلت الجامعة العربية موقفا سياسيا رمزيا، من خلال التصويت في 10 جانفي 2016 في القاهرة على قرار يدين الهجمات التي تعرضت لها المقرات الدبلوماسية السعودية في إيران، في وقت امتنعت لبنان عن التصويت على القرار، ورفضت ربط اسم “حزب الله” بالإرهاب، كما أعلن العراق تحفظه على بعض البنود الواردة في القرار والبيان الختامي للاجتماع.ولم يقرر البيان أي إجراءات مشتركة محددة ضد إيران، لكنه شكّل لجنة أصغر لمواصلة بحث الأزمة والتشاور بشأن الإجراءات المستقبلية المحتملة، وهو ما يكشف عن توافق حد أدنى لتفادي التصعيد وبروز تباين في المواقف إزاء محاولة الرياض توسيع دائرة المقاطعة لإيران، وإن كانت درجة الاحتقان عميقة ومتشعبة، ففي المرة السابقة التي قطعت فيها السعودية علاقاتها مع إيران، بعد أن اقتحم محتجون سفارتها في طهران عام 1988، تطلب رأب الصدع تحولا في ميزان القوى الإقليمية في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت عام 1990، بعد أن وقفت دول الخليج في صف العراق ضد إيران في حرب 1980-1988، ومن الصعب توقع مآل صراع المواقع الذي يبرز في طموح قوتين جهويتين، وفي حروب بالوكالة تتعدد أبعادها وخلفياتها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات