+ -

بسبب التخلف الذي تتخبط فيه الأمة الإسلامية منذ قرون عدة، تشوهت الكثير من المعاني الجميلة عند المسلمين، كما ظهرت عندنا العديد من الانحرافات الفكرية والسلوكية والتطبيقية.. إلخ. وسبّب هذا إرباكًا لكثير من الناس؛ فطاشت موازينهم واختلت معاييرهم. هذا أمر مشاهد معيش، وليس المقام مقام تتبع لمظاهره ولا ضرب أمثلة لصوره، لكن يغني عن ذلك الوقوف على حالة لعلها من أبرز مظاهره وصوره، وهي حالة العبادة التي هي ركن من أهم أركان التدين، بل أهمها؛ إذ لا دين من غير عبادة، ولا تدين من غير عبادة، هذا أمر بين واضح. بيد أن ضعف تأثير العبادة في سلوك كثير من الناس، وتحول عبادة كثير من الناس إلى التزامات ظاهرية، وحركات جافة تفتقد لنداوة الإيمان وتفتقر لخشوع القلب، جعل هذا الحال بعضهم يقلل من قيمة العبادة في ميزان الدين! ويقلل من وزن الشعائر في ميزان التدين! وربما عبّر بعضهم عن ذلك بالمقالة الشهيرة -الخاطئة على شهرتها: الإيمان في القلب! وهذا ظلم للحقيقة وإخسار في الميزان؛ فبدل أن نحكم بالدين على سلوك الناس، صرنا نحكم بسلوك بعض الناس على الدين!والحق أن وجود بعض من تظهر عليهم مخايل التدين، ويظهر عليهم الحرص الشديد على أداء العبادات وتأدية الشعائر، ومع ذلك يجمعون إلى ذلك سُوء خلق وسلوك وضعف تفكير، وربما تخلف حضاري عام، ليس مسوغا للحط من قدر العبادة التي رفع الله قدرها، وليس كافيا لاتخاذه ذريعة للتملص من واجبات العبودية!إن عبادة الله عز شأنه مقصد أعظم من مقاصد خلق الإنسان ومقاصد شرع الدين، قال الحق سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِن وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}. وعن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قال: قال النبِي صلى الله عليه وسلم: ””يَا مُعَاذُ أَتَدْرِى مَا حَق اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟”، قال اللهُ ورسولهُ أَعلمُ. قال: ”أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِى مَا حَقهُمْ عَلَيْهِ؟”، قال اللهُ ورسولهُ أَعلمُ. قال: ”أَنْ لاَ يُعَذبَهُمْ” رواه البخاري.وهل وجد دين على الأرض -حتى الديانات الباطلة التي نسميها دينًا مجازًا- لا عبادة فيه ولا شعائر؟! أبدًا لا وجود لدين من غير شعائر وعبادات، وكذلك لا وجود لمتدين لا يؤدي العبادات ولا يقوم بالشعائر! بل أمر الله سبحانه نبيه عليه السلام، وهو سيد المتدينين وإمامهم وقدوتهم بعبادته الدائمة: {فَسَبحْ بِحَمْدِ رَبكَ وَكُنْ مِنَ الساجِدِينَ *  وَاعْبُدْ رَبكَ حَتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}. قال الإمام ابن عادل الحنبلي في تفسيره لهذه الآية: ”قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: {حَتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} يُريد الموت؛ لأنه أمر مُتيقن. فإن قيل: فأي فائدة لهذا التوقيت مع أن كل واحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ فالجواب: المراد: {واعْبُدْ رَبكَ} في جميع زمان حياتك، ولا تخلو لحظة من لحظات الحياة من العبادة”. فهكذا هي العبادة في الإسلام: منهج حياة، يبدأ من بلوغ المرء وجوبًا، ويصحبه في كل حياته، ولا يفارقه إلا عند مماته! وهكذا كل مَن أخذ حظًا من التدين لا بد أن يكون له نصيب من العبادة: طهارة قلب وزكاة نفس وحياة روح وزيادة إيمان. بل العبادة هي أساس التدين، والشعائر التعبدية هي قاعدته التي يبنى عليها، وما لم يكن لَهُ أساس فمهدوم، وما لم يكن له قاعدة فمردوم! وفي الحديث الشهير: ”بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ: شهادةِ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا عَبدُه ورسولُهُ، وإِقامِ الصلاةِ، وإِيتَاءِ الزكاةِ، وحَج البَيتِ، وصومِ رمضانَ”.إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات