نهاية العام مناسبة لمُحاسبة النّفس وتصحيح المسار

+ -

ها نحن نودّع عامًا من أعمارنا، ونطوي صفحة من صفحات حياتنا، ودَّعنا العام بما استودعناه من عمل، وكما مرّ هذا العام والأعوام الّتي قبله ستمرّ بقيّة الأعوام من أعمارنا، وسيجد الإنسان نفسه يومًا من الأيّام وهو يقف في المحطّة الأخيرة من رحلة هذه الحياة، وسينزل نزولاً إجباريًا، وسيتم التّعامل معه على ضوء تعامله هنا، فمَن أحسن هنا لقيَ إحسانه هناك، ومَن أساء هنا لقي إساءته هناك. قال الله سبحانه وتعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فماذا نتوقّع أن نُجزى عليه إلاّ أعمالنا؟ هل نتوقّع أن يعطينا الله عمل غيرنا؟ أم أن يضع الله سيّئاتنا في موازين غيرنا؟ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.وبين عام يمضي وآخر يحلّ، هناك فترة من الزّمن نطويها اسمها العمر، وتنقص أعمارنا بمقدار ما يمرّ من أعوامنا، فنحن عبارة عن مجموعة من الأيّام، ومَثَلُنا كمَثَل التّقويم المعلَّق على الجدار، ففي أوّل العام تجده سميكًا مليئًا بالأوراق، ثلاثمائة وستون ورقة، ولكن في كلّ يوم تنزع ورقة، وتمرّ الأيّام ولا ننتبه إلاّ والتّقويم لم يبق منه إلاّ اللّوح فقط، وكذلك نحن، فكلّ يوم تُنزع ورقةٌ من عمرنا، وسيأتي علينا يوم لا يبقى منّا إلاّ اللّوح الّذي هو عبارة عن الجثّة الّتي توضع في المقبرة، وترتفع الرّوح إمّا إلى علِّيِّين، أو تُسْقَط وتُهْبَط وتُدَنَّس وتُسَجن في سجِّين: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}، أمّا الّذين غفلوا ومرّت الأعمار عليهم هكذا سراعًا دون تأمّل ولا مراجعة، ولا وقفة ولا محاسبة، فيقول الله فيهم: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ}، {لَفِي سِجِّينٍ}: لفي حبس وضيق شديد، {كتاب مرقوم} أي: مكتوب.فنحن نمتطي مطايا اللّيل والنّهار، ونفرح بدوران الشّهر من أجل أن نستلم الرّاتب، نبيع أعمارنا برواتبنا، والأيّام واللّيالي تسير بنا ونحن لا ندري، لا نستطيع أن نوقف عجلة الزّمن عند نقطة معيّنة، بل تسير بنا الأيّام ونحن لا ندري، فإنّ الزّمان لا ينتظر أحدًا، ولا يتريَّث لأحد، وفي الصّحيح “إنّ الله يبسُط يده باللّيل ليتوب مُسيء النّهار، ويبسُط يده بالنّهار ليتوب مُسيء اللّيل”، وبسط اليد باللّيل والنّهار دليل استعجال، أي: بسرعة تُبْ إلى الله، ما دُمتَ أسأت في اللّيل، فإنّ الله بسط يده لك من أجل أن تتوب؛ لأنّك مُسيء، هذا فيه حثّ وشحذ للهِمَم، وأنّك تسير ولا تدري ما المَصير الّذي تَصير إليه، فلا بدّ أن تتنبه وأن تكون عاقلاً، لا تسر مع الّذين يعيشون عيشة البهائم، ولا همَّ لهم إلاّ هذه الدّنيا، ولا ينتبهون إلاّ وهم يَقْتَحِمون ويُقْذَفون ويُدَعُّون على رءوسهم إلى النّار وهناك يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ}، ويقول الظّالم نفسَه: {رَبِّ ارْجِعُونِ} لماذا؟ {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، لماذا كنت غافلاً؟ مَن الّذي أخّرك؟ {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.إنّ كلّ تأخير في إنقاذ النّفس وتصحيح المسار لا يعني إلاّ التعرّض لمزيد من الخسارة والانحدار والدّمار، فما أجمل أن يُعيد الإنسان تنظيم وضعه مع ربّه بين الحين والحين، وما أجمل أن يُرسل نظرات ناقدة في جوانب نفسه ليتعرّف على عيوبها وأخطائها، ويرسم السّياسات القصيرة والعاجلة للتخلّص من الخطايا، ألاَ تستحق نفسُك أن تتعهّدها بين الحين والحين لترى ما لحِقَ بها من اضطراب فتزيله، وما تعرّضت له من إثم فتنفيه، مثلما تنفي القمامة من ساحات بيتك، ألاَ تستحقّ النّفس بعد كلّ مرحلة نقطعها من مراحل الحياة أن نعيد النّظر فيما أصابها من غُنْم أو خسارة، وأن نعيد إليها توازنها، وأن نعيد بناءها وترتيبها، فتصحيح الوضع بعد إجراء المحاسبة، هو تجديد للحياة، ونقلة حضارية حاسمة لتغيّر معالم النّفس، فربّنا يَدعونا إلى هذا في سيّد الاستغفار، ففي الصّحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “ألاَ أدُلّك على سيّد الاستغفار؟” قلت: بلى يا رسول الله، قال “قل: اللّهمّ أنْتَ ربّي وأنا عبدُك، خلقتني وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغْفِر لي فإنّه لا يَغفِر الذّنوب إلاّ أنت”.إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات