هي محجة لدارسي وحفظة كتاب الله يأتونها من كل فج عميق، هي “كعبة حملة القرآن” في الجزائر، ومركز إشعاع ديني وثقافي ارتوت من نبعه شخصيات وطنية سياسية وأدبية وإطارات مرموقة، كما كانت حصنا منيعا في وجه الاستعمار، هي اليوم لا تزال تواصل رسالتها النبيلة في تحفيظ القرآن وتعاليم الإسلام والتربية الروحية التي أسست لأجلها، وعملها لا زال يترسخ في عمق المجتمع، ويتزايد عدد مريديها سنة بعد أخرى، وهي إلى جانب تحفيظ القرآن والحديث الشريف لها مهام أخرى اجتماعية وثقافية ووطنية، وديدن مشايخها خدمة دين الله والوطن.تلكم هي الزاوية الحملاوية التي يعود مبعثها إلى الوجود إلى ما يزيد عن 3 قرون من الزمن، وتعد من أعرق الزوايا في الجزائر. أول حجر أساس لها كان بمنطقة تسمى اليوم “بوفولة” بشلغوم العيد جنوب ولاية ميلة، وكان ذلك في القرن التاسع الهجري إبان العهد العثماني.أسست الزاوية من طرف الشيخ علي بن خليفة الحملاوي الذي يعد من أبرز أبنائها، وبعد مضايقة شرسة من الاحتلال الفرنسي للزاوية ومشايخها بمنطقة بوفولة فضل مؤسسها الشيخ علي شد الرحال إلى مكان أكثر أمانا بعيدا عن أعين المحتلين، فوقع الاختيار على منطقة معزولة على بعد 4 كم عن بلدية وادي سقان بميلة.استقبلنا شاب في مدخل الزاوية وقادنا نحو غرفة الاستقبال، وفهمنا من بعد أنه من المراقبين خارج الزاوية. وعرفنا أن للزاوية نظاما تسير عليه، حيث تحرسها أعين بالخارج ومراقبون بالداخل، كل شيء يخضع لنظام داخلي محكم وقوانين تضبط السير الحسن لكل ما يجري داخل هذه المؤسسة، مثلها مثل المؤسسات التربوية الأخرى. بعد انتظار لم يطل كثيرا حضر شيخ الزاوية الذي رغم مشقة السفر من العاصمة فتح لنا صدره بقلب مفتوح، وحدثنا عن التاريخ المشرق للزاوية ومشايخها ومنهجها في التعليم الديني، وعن المتاعب التي واجهتها عبر الزمن وهي تشق طريقها لتعليم الدين وتحفيظ كتاب الله، لاسيما خلال العهد الاستعماري.جلسنا بغرفة الضيوف في حضور مقدم الزاوية وبعض المشايخ المدرسين بها، وراح الشيخ وهو شاب لا زال كله حيوية وخفة روح يحدثنا عن زاوية السلف، ويكشف في سرد تاريخي مفصل عن مجد هذا الإرث الحضاري المتأصل في المجتمع.واستهل محدثنا كلامه بالأسس الدينية والاجتماعية والوطنية التي تقوم عليها الزاوية، وعمودها الفقري تعليم القرآن وتحفيظه على رواية ورش، تعليم قواعد اللغة العربية والفقه على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، وهي لم تزغ عن هذا، وحافظت طيلة وجودها على أسسها وأهدافها، وهذا سر استمرارها وامتدادها في عمق المجتمع الجزائري. وللزاوية الحملاوية سمعة طيبة على المستوى العربي والإسلامي، وإجازتها كانت معترفا بها في منارات العلم الكبرى كالأزهر الشريف وجامع الزيتونة وجامع القيروان.تاريخ حافل وتميز عن بقية الزوايارغم أن الساحة الدينية والاجتماعية بالجزائر كانت عامرة بالزوايا وحافلة بالطرق الصوفية، فإن الزاوية الحملاوية استطاعت أن تحجز لنفسها مكانا تحت الشمس وتشع بنورها على طلبة العلم والدين طيلة 3 قرون، بفضل منهجها السليم في التعليم والتربية ونبل أهدافها والتزامها بضوابط العمل الديني والتعليمي، يوضح شيخها محمد الهادي الحسيني.تداول المشايخ المسؤولية على قيادة هذه المؤسسة الدينية الاجتماعية بكل إخلاص وتفان، ما أهلها لتكون من الزوايا التي استقطبت أعدادا قياسية من المريدين، متبعة الطريقة الرحمانية منهجا لقيامها على الوسطية والاعتدال، هذه الطريقة التي قال شيخ الزاوية إنها الطريقة الصوفية الأولى والأصلية في الجزائر. وكانت الأوسع انتشارًا في عموم الجزائر إبان القرن التاسع عشر؛ حيث كانت تستحوذ وحدها على أكثر من 50% من عدد الزوايا في الجزائر، وقد تأسست الطريقة الرحمانية أواخر القرن الثامن عشر الميلادي على يد شيخها ومؤسسها محمّد بن عبد الرحمن الزواويّ الأزهريّ، وإليه نُسبت فقيل “الرحمانيّة”.اشتهرت عائلة بن الحملاوي العريقة التي تنحدر من شجرة أبناء فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وبرز منها عدة شيوخ خلدوا ذكرهم في التاريخ بفضل التضحيات ونكران الذات خدمة للدين. تاريخ العائلة الحملاوية يبدأ منذ الخلافة العثمانية في القرن التاسع الهجري، وقد عُرفت العائلة أكثر بمقاومتها للاستعمار الفرنسي، وأول من قاوم الاستعمار من العائلة هو الشيخ الشريف الحملاوي الذي كان يقود 5 قبائل أواخر العهد التركي، وبعده جاء الآغا أحمد بن الحملاوي الذي كان مستشارا لأحمد باي خلال ولايته عام 1832، حيث عينه على رأس الجيش، وكان من المدافعين على قسنطينة خلال الحملتين الفرنسيتين.برز من أبناء العائلة الحملاوية الشيخ علي بن الحملاوي مؤسس الزاوية التي تحولت إلى منارة للعلم والقرآن الكريم تُشد الرحال إليها من كل جهة.مسيرة حافلة للشيخ علي بن الحملاوي.. فقد انخرط في الطريقة الرحمانية وتتلمذ على يد إمام الطريقة الشيخ محمد أمزيان بن علي الحداد حتى أصبح من المقدمين فيها، ولما دعا الشيخ الحداد إلى الثورة في 1871 كان الشيخ علي بن الحملاوي في طليعة المستجيبين لنداء شيخه. تعرض للنفي ثم السجن ببسكرة وبقسنطينة، والتقى بمشيئة المولى في السجن بشيخه الحداد الذي توفي في حجر الشيخ علي بعد أن ترك له وصية يستخلفه فيها. وفي عهده أصبح للزاوية إشعاع كبير في كل الوطن وامتدت إلى بلدان مجاورة وخاصة تونس، كما نشأت لها فروع وأتباع في طرابلس والقاهرة وجدة. وذكرت الإحصائيات التي جرت عام 1897 أنه كان للشيخ 44 زاوية و227 مقدم و325 شاوش. أما عدد أتباعه فيفوق 40 ألفا.مسيرة شيوخ الزاوية تواصلت بوصول الشيخ عبد الرحمن، ثم تلاه الشيخ عمر الذي كان من أشرس المقاومين للاستعمار، وفي عهده تعرضت الزاوية لضغوط الاستعمار لإطفاء هذه الشعلة، وقاموا بمصادرة أملاكها ومحاولة هدمها. وبعد وفاته خلفه أخوه عبد المجيد الذي واصل المسيرة بكل حزم، قبل أن ينقطع عن الدراسة ويلتحق بالثورة المظفرة. التقى في 1970 الشيخ سيدي محمد بلقائد التلمساني حامل راية التصوف في زمانه، وأخذ عنه الطريقة البلقائدية الهبرية الشاذلية، وصاحبه لمدة 30 عاما.الزاوية مأوى الفقراء وعلاقتها طيبة بكل الزوايا والطرقالتزمت الزاوية الحملاوية عبر كل مراحلها بمنهجها المبني على أسس الاستقامة وتحفيظ كتاب الله والفقه على المذهب المالكي، ولم يمنعها كل هذا من العمل على الجبهة الاجتماعية، يقول شيخها محمد الهادي، حيث كانت تحرص على التكفل بالفقراء والمساكين وتتولى إطعام عابري السبيل وإيوائهم، معتمدة على ما تجمعه من مساعدات من المحسنين وما لديها من ممتلكات، ومنها 250 هكتار من الأراضي التي وضعت وقفا للزاوية وهي تتمول منها إلى اليوم. وعن مكانتها بين الزوايا وعلاقتها بهم، قال شيخ الزاوية الحملاوية إن هذه الأخيرة تعد الزاوية الوحيدة التي تستقبل كل المريدين وكل المتصوفين من الزوايا الأخرى لما لها من خصوصيات، والشيخ بلقائد أمر مريديه بزيارة زاوية واحدة هي الزاوية الحملاوية. “علاقتنا بالزوايا والطرق جد طيبة، ونبحث دوما عما يجمعنا لا عما يفرقنا، لأننا كلنا نسعى لخدمة الدين”، يقول الشيخ.الزاوية بعيدة عن النشاط السياسي وبومدين درس بهانفى شيخ الزاوية تورط زاويته في أي نشاط سياسي، وبكل صراحة قال إن الزاوية لا تمارس السياسة ولا تبالي بها، رغم أن الكثير من الشخصيات السياسية البارزة مرت بالزاوية ونهلت من منبعها، على غرار الزعيم الراحل هواري بومدين الذي درس بالزاوية وعمره 7 سنوات، قبل أن يتنقل إلى فرعها المسمى الكتانية بقسنطينة، وكذلك الرئيس الراحل علي كافي، وعلماء أيضا مثل الشيخ آيت علجت، لكن الزاوية التي لا تمارس السياسة بقول شيخها تبقى ملتزمة بنهجها ووفية لمبادئها، فقد تنخرط في العمل السياسي في حال واحدة حين تصبح الجزائر في خطر.. كما حظيت الزاوية بزيارات مسؤولين سامين في الدولة الجزائرية ووزراء، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة.الزاوية لا تمارس الدروشة ولا الطقوس البعيدة عن الشرعأبدى الشيخ رفضه لبعض التوصيفات التي تستهدف الزاوية، مؤكدا أن الزاوية لم تغير ولم تبدل منذ 3 قرون، وقد واصلت رسالتها لخدمة الدين والهوية الجزائرية، موضحا بأن الذين حاربوا الزوايا بعد الاستقلال لم تكن مشكلتهم مع الزوايا بقدر ما كانت مشكلتهم مع الدين، لأن التوجه السياسي آنذاك كان معروفا ولم يكن يشجع على ما تقدمه الزوايا، لأن فكر ذلك النظام لم يكن يتناغم مع فكر الزوايا القائم على الدين والقرآن، والدليل يقول تأميم وقف هو إرث حضاري للشعب “أليس ذلك مساسا بهذا الإرث؟” يتساءل شيخ الزاوية الحملاوية. وأوضح شيخ الزاوية محمد الهادي أن الزاوية الحملاوية تلتزم دوما بمنهجها الرباني المحمدي ولا تخرج عنه أبدا، نافيا أن تكون الزاوية تمارس طقوسا خارجة عن الشرع أو الدروشة، متحديا كل من ينكر ذلك “الدين لم يكن أبدا ضد الغريزة الإنسانية، بل حث على كبحها وضبطها، والإسلام نظم غرائزنا لنعيش السعادة في دنيانا وأخرانا”،كما رد على أولئك الذين ينتقدون منهجية الزوايا في تحفيظ القرآن جماعيا “البدعة ما يُلحق الضرر بالدين والإنسان، أما أن تقرأ القرآن جماعيا فلا بدعة في ذلك، وقد أثبتت طريقة تحفيظ القرآن بالزوايا أنها الأفضل والأجود”.أكثر من 75% من الطلبة من التوارقيدرس حاليا بالزاوية حوالي 150 طالبا 75% منهم من التوارق الجزائريين ومن النيجر ومالي، وهدف الزاوية من وراء ذلك هو غرس روح الانتماء لهذا الوطن في نفوس هؤلاء، يؤكد شيخ الزاوية، كما يوجد طلبة من دولة بوركينافاسو كذلك، وتتكفل الزاوية بتدريس وإطعام وإيواء الطلبة وفق نظام داخلي محكم دون أي مقابل، ويؤطرهم عدد من المشايخ على رأسهم مقدم الزاوية وناظر ومشايخ لتحفيظ القرآن وتعليم الفقه، ومراقبون يسهرون على توفير الظروف المواتية لتمدرس جيد.من هو شيخ الزاوية الحملاوية؟ شيخ الزاوية الحملاوية محمد الهادي حملاوي الحسيني، هو ابن الشيخ عبد المجيد، من مواليد 1968، أخذ مبادئ التربية الروحية على يد والده الشيخ عبد المجيد ثم انتقل مع والده إلى ولاية بشار، وعند عودته إلى العاصمة واصل حفظ القرآن الكريم بالزاوية التابعة للشيخ سيدي محمد بلقائد التلمساني الذي أخذ العهد على يده. انتقل إلى المدينة المنورة، ثم عاد إلى الجزائر. تحصل الشيخ على شهادة البكالوريا شعبة رياضيات، ثم التحق بالمدرسة الوطنية المتعددة التقنيات في الحراش، ثم المدرسة الوطنية للإدارة شعبة إدارة عامة، ليعود بعدها مباشرة إلى الزواية الحملاوية.بعد وفاة الوالد الشيخ عبد المجيد في 2009، انتقلت المشيخة إلى محمد الهادي عن وصية أوصى بها أبوه. ويعتزم الشيخ محمد الهادي مواصلة جهود والده من أجل تطوير الزاوية وجعلها منبرا من منابر العلم، وخدمة كتاب الله بما يليق وتاريخها وجهود شيوخها الذين سبقوه. ورغم كل ما يقال عن الزوايا، تستمر الزاوية الحملاوية ببلدية وادي سقان في أداء رسالتها، ملتزمة بمنهجها الصوفي وطريقتها الرحمانية، ومؤكدة أن هدفها يبقى خدمة الدين والوطن، وذلك فوق كل اعتبار.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات