العائلة السعيدة التي توقفت أحلامها في الطريق السيار

+ -

التاريخ: 8 سبتمبر 2014.. لم يكن السيد عاشور خليفــة الذي قرر في ذلك اليوم المشئوم امتطـــاء سيارتــه “سيتروان ساكســو” رفقــة زوجته سعاد وابنته أنفــال (9 سنوات) وابنه معـاذ (5 سنوات)، آملين في الوصول إلى الجزائر العاصمة تحت عناية الله لقضاء حاجة والعودة في المساء إلى مسقط رأسهم ببلدية تارمونت بولاية المسيلة، لم يكن يتوقع أن الرحلة ستتوقف في نصف الطريق، وأن ذكرى حزينة سوف هناك ستبقى مرسومة لا  تنمحي بمرور الزمن، وحتى بلوغ الآجل المحتوم، كالوشم على الجسد.. المكان: الطريق السيار شرق غرب، وتحديدا في منطقة العجيبة التابعة إقليميا لولاية البويرة.. كانت هناك سيارة “شوفرولي أوبترا”، وسائق متهور لم يضع في الحسبان أن استشعار الأمن والأمان ليس حكرا عليه وحده، بل هناك أرواح بشرية بريئة تحلم هي الأخرى كل مرة بالعودة من شقاء السفر بنفس الأمن والأمان الذي يستشعره هو، وماذا تفعل سيارة مجنونة يقودها سائق متهور في مشهد من هذا النوع سوى الموت؟ ولا أقل من تلك النهاية المأساوية. ولأن السرعة الزائدة إصرار وترصد وإمعان في القتل، فالقانون يعتبرها جريمة قتل متوفرة الأركان، هرب المتسبب تاركا وراءه ضحايا حياتهم بين الأمل في الحياة، لم يكن ذلك الأمل سوى بصيص فقط، وآثر عدم نجدة العائلة التي رزئت في ولديها وتركت قطرات من دمائها على إسفلت ذلك الطريق.. أكثر من ذلك، ركب موجة الإنكار الشديد، ولولا الخيّرين من رواد الطريق السريع لكان أفلت بالجريمة إلى الأبد.لحظة هروب المتهم والوقوع في القبضة..حسب أمر الإحالة رقم 0007 بتاريخ 14/05/2015 الصادر عن قاضي التحقيق بمحكمة اختصاص البويرة في مادتيه 164 و165 من قانون الإجراءات الجزائية، تتلخص تفاصيل القضية في أنه بتاريخ 08/09/2014 حررت الفرقة الإقليمية للدرك الوطني بالعجيبة (البويرة) محضرا تحت رقم 1478 ضد المتهم بارتكاب حادث جسماني مميت على الطريق السيار شرق غرب، بالمكان المسمى بوخالد ببلدية أحنيف، تسبب فيه هذا الأخير نتيجة الإفراط في السرعة، عندما كان يقود سيارة سوداء اللون تحمل ترقيم ولاية برج بوعريريج، ليصطدم بسيارة “سيتروان ساكسو”، الأمر الذي أدى إلى انحرافها إلى أقصى جهة اليمين لتصطدم بدورها بالحجاز الإسمنتي ثم بالجرار الطريقي الذي كان متوقفا على حافة الطريق، وقد أسفر الحادث حسب محضر الفرقة الإقليمية للدرك في وفاة كل من عاشور معاذ وأنفال، وإصابة والديهما بجروح خطيرة سُلِّمت لهما جراءها شهادة طبية تبين عجزهما لمدة 120 يوم، إلا أن الفاجعة كانت كبيرة على عائلة عاشور التي بالرغم من أنها ثكلت في فقدان فلذتي كبدها، فوجئت بهروب المتسبب في الحادث أثناء تصريحه في محضر تحقيق ابتدائي ينكر ما نُسب إليه من أفعال، ومؤكدا أنه لم يتسبب كذلك في وفاة أي أحد، رغم أنه أجرى بعد ذلك 5 عمليات جراحية له ولزوجته واستأصل طيحاله كلية، وهم اليوم مقعدان طريحا الفراش، ورغم شهادات الشهود الذين عاشوا الواقعة عن قرب وحضروا تفاصيلها، والذين أجمعوا على أن المتهم الذي طُلب منه البقاء للاستفسار على الأقل ولّى هاربا دون وازع ضمير، لولا تسجيل رقم سيارته من قبل أحد الحاضرين والاتصال بالدرك الوطني الذين تمكنوا من توقيفه في الحاجز الموالي، وتبين أنه يمارس مهنة المحاماة، ويتقن فنون الإنكار جيدا، كان ذلك لدى توقيفه من قبل مصالح الدرك الذين سألوه ما إذا تعرض لحادث مرور، فأعلموه بأن الحادث الذي تعرض له أدى إلى الوفاة، فأخبرهم في الحين بأنه لم يكن يعلم بوقوع وفاة نتيجة الحادث، وبأن السيارة التي تعرض معها لحادث مرور غادرت المكان، نافيا بذلك ادعاءات الشهود والضحايا، رغم أن أحد الشهود، حسبما حمله قرار الإحالة، أكد في محضر الضبطية القضائية أنه أعلم المتهم بأنه تسبب في حادث مرور، وأن عليه البقاء، فأجابه الأخير بأنه لن يغادر، بل سيركن سيارته في مكان قريب ويرجع، غير أنه انطلق رفقة ابنه دون رجعة، وكان سجَّل رقم سيارته قبل أن يُعلم مصالح الدرك بذلك ويتم توقيفه بعدها.العدالة.. طريق مملوء بالأشواكفي الجلسة التي دارت وقائعها يوم 08/11/2015 بمحكمة الجنح في البويرة، حيث تتم متابعة المتهم بجنحتي القتل الخطأ والجروح الخطأ وجنحة الفرار. فبالنسبة لجنحة القتل الخطأ، ثبت لهيئة المحكمة من خلال أوراق الملف أن المتهم تسبب في هلاك أشخاص نتيجة عدم مراعاته للأنظمة، وذلك لقيادته سيارته بسرعة مفرطة، مع علمه أن الفعل معاقب عليه قانونا، وهو ما يشكل الركن المعنوي للجريمة، وجاء متناغما أيضا مع محضر الضبطية القضائية لفرقة الدرك الوطني بالعجيبة تحت رقم 1478، وخلص التحليل لهذا الركن إلى أن هناك علاقة سببية مباشرة بين خطأ المتهم ونتيجة الحادث، وهو وفاة الضحيتين أنفال ومعاذ، وأن هذا الفعل يشكل جنحة القتل الخطأ، ما يتعين التصريح بإدانته وعقابه طبقا للقانون، وذلك بتعليق رخصته للسياقة لمدة عام. أما فيما يتعلق بجنحة الفرار فقد تم التصريح ببراءته من هذا الجانب، وقد استندت المحكمة في ذلك إلى أن المتهم توقف وقت الحادث وتحدث مع أشخاص قبل أن يغادر، الأمر الذي يسقط عنه هذه التهمة.رُفعت الجلسة.. والحكم بعد المداولةبعد المداولة القانونية، أصدرت محكمة الجنح حال فصلها في هذه القضية بـ6 أشهر حبسا مع وقف النفاذ في حق المتهم، و50 ألف دينار غرامة واجبة الدفع، مع تعليق رخصة السياقة لمدة عام، والبراءة من جنحة الفرار، وفي الدعوة المدنية إلزام المتهم تحت ضمان شركة التأمين بتعويض الأطراف المدنية: والد الضحيتين بمبلغ 82 مليون سنتيم وزوجته بمبلغ 64 مليون سنتيم، ورفعت الجلسة!هذا ملخص الحكاية.. تداعيات المأساةهذا ملخص الحكاية، ومظهر الحزن وصنوف المأساة التي يعيشها اليوم الضحية عاشور خليفة وزوجته، بعد مضي أكثر من عام على الحادث. مشهد مأساوي آخر.. لم يقدر الوالد على البقاء أو حتى العودة إلى المنزل القديم في مسقط رأسه ببلدية تارمونت، كل شيء هناك يوحي له بالذكرى.. زارني في مكتبي بالمسيلة محملا بشهادات طبية كثيرة، وحدثني عن حياة كانت سعيدة قبل أن يجول في خاطره ذالك اليوم السفر إلى العاصمة، عندما كان يحدث ولديه بنزهة ورؤية مناظر البحر ولو من بعيد، لم يستسغ أن يدخل ذلك البيت الذي بلا شك سوف يسمع فيه ضحكات ولديه وثمرة فؤاده، ويرى لباسهم وأدوات أنفال المدرسية، فآثر الهروب واكتراء مسكن آخر وسط مدينة المسيلة، هو اليوم يعيش فيه باردا من كل شيء، صقيع محمل بعبث الذكريات، أجسام مقعدة قطعها الحزن، ينتظر لحظة إنصاف قد يأتي بها القدر في يوم من الأيام.رسالة إلى الرئيس قبل موعد الاستئنافالسيد عاشور خليفة لم يجد غير الورق والحبر.. كتب رسالة إلى رئيس الجمهورية شرح له فيها معاناته، استنجد به بصفته القاضي الأول في البلاد، قال له فيها “هذه مصيبتي، وهذا هو الحكم إن رضيت به فسوف أرضى..”، اشتكى له المتهم قائلا إنه يمارس مهنة المحاماة، لم يتصل به يوما على الأقل من باب الإنسانية.. لا زال يمارس مهنته إلى اليوم، تمت تبرئته من جنحة الفرار، رغم أن محضر الدرك الوطني يؤكد ذلك، لكن شاءت الأيادي أن تغير العدالة مجراها.. سؤال تركه.. نقاط ظل كثيرة، ثغرات في القضية، وطلب النجدة والتدخل العاجل لإعادة الفحص والتدقيق في الملف، مع مراعاة الظروف النفسية التي يعيشها هذا الأخير..

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات