"الخبر" تنقل قصصا مثيرة للمهاجرين الأفارقة

+ -

ينطلق المهاجرون من أعماق إفريقيا نحو الجزائر في رحلات أسطورية، ويقطعون آلاف الأميال في أدغال وصحاري القارة السمراء، يخوضون فيها مغامرات مرعبة ومثيرة. “الخبر”، وعلى لسان رعايا أفاقة من مالي وكوت ديفوار والكامرون وغانا، تروي تفاصيل هجرة يجتاز فيها هؤلاء مناطق يسيطر عليها الانفصاليون، ويسقطون في مكائد قطّاع الطرق، ويموتون جوعا ويتيهونفي الخلاء، فيما يواصل الناجون طريقهم لتحقيق حلم “مؤجل”، أما عائلاتهم فتتطلع في الأفق تنتظر بشرى نجاتهم، والمؤلم حين يأتيها “رسول شؤم” بأن ابنكم ابتلعته رمال الصحراء.   في حي شعبي مترامٍ على حافة العاصمة الاقتصادية الكامرونية دوالا، حدد الجامعي مانفريد صاحب 25 عاما، في نوفمبر الماضي، معالم هجرته نحو الشمال، بعدما حدثه أصدقاؤه عن الجزائر كمحطة عبور للفردوس الأوروبي.يروى مانفريد الذي التقيناه في مأدبة عشاء نظمها الهلال الأحمر الجزائري منذ ثلاثة أيام بمركب 5 جويلية بالعاصمة، مشواره قائلا: “بعد وفاة أمي وأبي ونيلي شهادة جامعية في التسويق، تحدثت إلى إخوتي الثمانية وأخبرتهم برغبتي في المضي نحو بلد اسمه الجزائر تتوفر فيه فرص العمل كونه مشبعا بالثروات ويسكنه شعب معطاء، وهو جسر لضفة القارة الأوروبية، وكوني صغيرهم شرحت لهم ضرورة اتخاذ هذا القرار، وتحمّل ألم فراقهم وعدم البقاء هنا فريسة للفراغ القاتل والموت”.خارطة الرحلةتنهد محدثنا.. ليواصل: “كانت لحظة الفراق مؤلمة.. رمقت إخوتي بنظرة أخيرة، وتظاهرت بشجاعة كبيرة لكن في الحقيقة كان خوف رهيب يمزقني وأصابني هوس الاحتمالات الكثيرة.. ربما أموت وأخسر كل شيء، ربما أسقط في قبضة عصابة تنزع أعضائي وتتاجر بها، وبمجرد وصول رفقائي في الرحلة هدأ خاطري وشرعنا نتحدث في مسار الرحلة. من الكامرون نحو نيجيريا مرورا بالطوغو وغانا وبوركينافاسو، فالنيجر لنبلغ الجزائر، ونفضل في هذا السفر الموت على العودة إلى الديار، إذ نسير على أقدامنا مسافات طويلة محفوفة بالمخاطر والحيوانات المفترسة، ونكون مجبرين على التكيّف مع كل الوضعيات الصعبة، وحين لا نجد مسالك غير رسمية، نضطر للمرور عبر مراكز المراقبة بالحدود، حيث نخضع لتفتيش دقيق وللمساءلة من طرف رجال الأمن وحتى المخابرات ولا يطلقون سراحنا حتى يتأكدوا أننا لسنا جواسيس أو متمردين من تنظيمات إرهابية كـ(بوكو حرام)”.حكومات معاقةيتابع محدثنا وهو يرمق قمرا معلقا في السماء: “تظل المشاهد العابرة عبر نوافذ الحافلة متشابهة ومتواترة بين الصحراء والأدغال، ولا يكسر تلك الرتابة سوى الوضعيات الصعبة، حيث يتوجب علينا الهبوط ومجاراة كل من يعترض طريقنا بليونة حتى نتخلص منهم وإقناعهم ومراوغتهم بالكلام لتلين قلوبهم، وإذا تصلبوا في موقفهم ندفع لهم بعض النقود ونواصل طريقنا، فكل مكان يحكمه منطق خاص”.وبحلول الليل، يتابع محدثنا، “يحاول السائقون سلك معابر خاصة لتجنب مناطق التوتر باستفسار سكان القرى الحدودية، فيما نتبادل نحن أدوار الحراسة بجانب السائق حتى نستسلم للنوم في البنايات المهجورة بعد التوقف في القرى الهادئة أو نبيت في زوايا المحطات البرية مفترشين أغطية بالية. وبعد شهر من الرحلة، بلغنا الحدود الجزائرية ومنها واصلنا طريقنا نحو أدرار من خلال مرشد لديه خبرة وخريطة عن المسالك، نصحنا بإقناع رجال الأمن الجزائريين بالدخول، ومنها التوجه إلى مخيمات اللاجئين واستبدال النقود بالدينار الجزائري لتسديد مستحقات المخيمات، ومنها أنت حر للمضي إلى الشمال عبر محطة العبور تمنراست”.الموت أو الاغتصاب“نخوض رحلات بين الأمل في حياة أفضل، وألم المغامرات والمخاطر، ونفضّل الموت فيها على البقاء تحت وطأة حكومات البلدان الإفريقية “المعاقة” التي لا تؤمن أصلا بما يسمى حقوق الإنسان وتلوّح به كشعارات رنانة نراها في المحافل الدولية لكن الواقع فهو قطعة من جحيم”.. بهذه العبارة استقبلتنا مريم من أبيدجان عاصمة كوت ديفوار في إشارة إلى تجربتها المريرة، هذه المرأة التي التقيناها هي الأخرى بمركّب 5 جويلية توحي تجاعيد وجهها بأنها شارفت على الأربعين، وتخفي وراء عيونها روحا معذبة وقصة امرأة كانت تعمل في دار الحضانة، قررت أن تترك وطنها وتركب “رحلة الموت”، إذ تقول: “ثمن بلوغ الجزائر غال، فهناك مهاجرات قتل أولادهن وأخريات تعرضن للاغتصاب على يد الصعاليك، أما أنا فسئمت الحياة هناك لأهاجر مع أولادي، بعد أن اتصلت بأحد أقربائي لديه صلة بمن يشتغلون على تنظيم السفر نحو الجزائر”.الأزواد و”جزية العبور”في قرية تدعى زرولكي بضواحي مدينة خونافي بغانا، استيقظ محمد فجرا وتوجه إلى المكان الذي تتوقف فيه الحافلة المتجهة إلى مدينة خونافي ومنها نحو العاصمة، تاركا والدته نائمة لا تعلم بمشروعه ولا يدري هو ما تحمله له الأقدار، لكنه يعي بأن رحلة مضنية في انتظاره، كلّفته قرابة 10 آلاف دينار جزائري، وتنظمها غالبا شبكات تهريب البشر في شكل سفريات على متن شاحنات متآكلة، قطعت بهم براري محفوفة بالأخطار.كانت خريطة الرحلة ومحطاتها معروفة مسبقا لدى صاحبنا، من غينيا إلى باماكو فكولويكورو مرورا بسيغو، “لكن حين ندخل حيزا يسيطر عليه ما يعرف بالحركة الوطنية لتحرير الأزواد بالنواحي الشمالية من مدينتي تمبكتو أو كيدال، تتغير المعطيات ويعترض طريقنا متمردون مسلحون ويرغموننا على تسديد مبلغ 3000 دينار جزائري كجزية العبور، والهتاف بشرعية الأزواد في الاستقلال عن مالي، مبررين ذلك بأن إقليمهم مستقل عن مالي ولا يمت لتلك الدولة بصلة، وإذا نجحنا في المرور نجد أنفسنا أمام امتحان آخر، كيف ندخل الجزائر ونصل إلى عاصمتها؟”.“لسنا لصوصا أو قطاع طرق”شاحنات متآكلة، أغطية مطرزة بأنامل أمي على عجل لا تقي برد الليل، سكاكين صغيرة للدفاع عن النفس، مخدات، فيديوهات وموسيقى إفريقية لتبديد الخوف، تين مجفف وتمر مفروم لإسكات صرخات الجوع، نافذة مفتوحة على صحاري مترامية، وحلم مؤجل.. كلها تفاصيل رحلة آدم وإدريس وأصدقائهما إلى الجزائر العاصمة، قطع خلالها آدم حوالي 4 آلاف كيلومتر.يتابع محدثنا: “تكون المحطات البرية بالمدن الشمالية بالجزائر آخر الرحلة، وفيها يبدأ تحدي البحث عن مقر لائق ننام فيه يكون في غالب الأحيان بيوت لم يكتمل بناؤها وغير مسيّجة، ونشرع كذلك في الاتصال بالمهاجرين الذين لديهم خبرة في التعامل مع سكان الجزائر، كونهم جاؤوا قبلنا وبقينا على اتصال معهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا تبدأ رحلة البحث عن عمل”.تختبئ وراء عيون آدم دموع ونفس معذبة من صعوبة الاتصال والاندماج، تجلت أكثر في كلامه وحركته عندما مسك جلده بإصبعيه وجذبه في إيحاء للون البشرة، وقال “الكثير يتعامل معنا انطلاقا من لون البشرة وليس بمعيار الإنسانية أو الثقافة، لكن في الوقت نفسه هناك أشخاص استطعنا الاندماج معهم بسهولة”.التفت مجموعة من المهاجرين حول طاولة عشاء لا تسد جوع من قضى يوما شاقا في ورشات البناء، هنا لخص آدم كلامه قائلا: “نحن لسنا لصوصا أو قطاع طرق، بل جئنا للجزائر لتحقيق لقمة العيش ومساعدة أهالينا، كما لسنا هنا من أجل سرقة أو جوسسة، فأمي تظل توصيني بعدم اقتراف الأخطاء أو المشاكسة والتحلي بالهدوء وعدم إزعاج السكان والصبر”.من جهته، تطرق محمد، وهو مهاجر من غانا، إلى موقف صعب حدث معه عند وصوله إلى الجزائر “رفض أحد الحلاقين الجزائريين قص شعر صديق لي من جنسية مالية، بينما يشترط آخرون مبالغ تصل أحيانا إلى 400 دينار جزائري، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الصورة النمطية التي يرسمها الكثير من الجزائريين تجاه المهاجرين من البلدان الإفريقية”.وفاء للخطيبةولم يقتصر الحديث مع الرعايا الأفارقة عن المواقف الصعبة وعراقيل الرحلة، بل اتخذ أيضا منحى عاطفيا، لم يتردد فيه إدريس الذي كان يجالسنا في الكشف عما يختلج صدره من شوق وأحاسيس تجاه خطيبته التي وعدها بالزواج ريثما يعود من الجزائر محملا ببعض الأموال، مؤكدا أنه لا يتخلى عنها رغم بعد المسافات.وعن الطريقة التي يساعد بها هؤلاء المهاجرون عائلاتهم، أوضحوا أن لديهم نظاما خاصا أسسه المهاجرون السابقون الذين يتسلمون مبالغ مالية بالعملة الجزائرية من نظرائهم الذين لم تمر على هجرتهم إلا أعوام قليلة، قبل تحويلها لذويهم من خلال الاتصال بأشخاص مقيمين ببلدانهم، يتكفلون بمهمة أخذ المبالغ إلى أفراد العائلة بالعملة المحلية، علما أن المهاجر المقيم بالجزائر يتقاضى عن كل عملية 3 آلاف دينار جزائري.مديرة هيئة الصليب الأحمر في إفريقيا لـ”الخبر”“قرابة 12 مليون مهجّر داخل القارة السمراء”كشفت مديرة هيئة الصليب الأحمر في إفريقيا، باتريسيا دانزي، في لقاء خصت به “الخبر”، أن قرابة 12 مليون شخص مهجر يعيشون داخل أوطانهم وضعيات صعبة تنعدم فيها مياه الشرب والمأكل والملبس، وهو ما دفع حوالي 4 ملايين منهم إلى الهجرة خارج أوطانهم.واعتبرت المتحدثة أن الوضعية الأمنية في الكثير من الدول الإفريقية والنزاعات بين المجموعات المسلحة تدفع الكثير من الشباب إلى اللجوء والهجرة نحو الشمال، كما تصعب من مهام منظمات الإغاثة، وهو ما يفرض علينا الاقتراب من كل الأطراف المتنازعة وإقناعهم بأن دورنا إنساني ولا علاقة له بالسياسة، وعليه يتوجب ترك هامش للمدنيين والعمل الإنساني.وتطرقت المتحدثة إلى الوضع في مالي، وقالت إن الذراع الإفريقي لمؤسسة الصليب الأحمر يسعى إلى الحديث مع كل من بإمكانه التأثير على المجموعات المسلحة لوقف العنف وتهجير العائلات، وإتاحة الفرصة لنا لعلاج الضحايا ومساعدتهم، داعية السياسيين الأفارقة والمجموعات المسلحة إلى احترام القانون الدولي الإنساني والوعي بظروف هؤلاء الأشخاص.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات