كعادتي كل يوم، تصفحت يومية “الخبر” وذهبت مباشرة إلى نقطة نظام، وأحسست بعد قراءة موضوع “دستور بالمقلوب” أنني نيوتن، عندما رأى تفاحة تسقط من شجرة واكتشف الجاذبية، لقد اكتشفت حقيقة وجود صحفي بيننا يربط بين قانون المالية والدستور، لأن كل ما قيل عن قانون المالية، سواء في البرلمان أو في الأحزاب (السياسية) أو في الإعلام، لا يتعدى الصراع بين الذين يدافعون عنه لتعمير كروشهم أكثر، والمناهضون له لأنه يزيد في تفريغ كروشهم.إثارتك يا أستاذ بوعقبة للعلاقة بين قانون المالية والدستور تكتسي أهمية بالغة، لأنك نبهتنا إلى أننا نسينا حاجاتنا العليا (الفكرية والمعنوية) وأصبحنا لا نهتم سوى بحاجاتنا السفلى (المادية). أنا شخصيا كتبت في السابق موضوعا تحت عنوان “هل نحن قطيع من الأغنام؟”، وبعد ذلك اقتنعت أننا كذلك، لأنني لم أر نقاشا فكريا عميقا يرفعنا إلى درجة الآدمية، خاصة من لدن الطبقة المتعلمة، غير أن موضوعك أعاد إليّ القناعة بأنه مازال بيننا من يحس بالحاجات البشرية العليا، خاصة أن الأمر يتعلق بالدستور، لأنه إسمنت بناء المجتمعات الحديثة، وبالتالي يكون التلاعب به تلاعبا بالبناء الاجتماعي. لقد سمح لي موضوعك أن أفهم لماذا أصبح مشروع الدستور لغزا محيرا وشبحا لا يخرج من الرف الذي سجن فيه؟ إنه فعلا دستور بالمقلوب.إن الذين فكروا في هذه الطريقة في وضع الدستور يستحقون براءة الاختراع في مجال القانون الدستوري، فهو اختراع جزائري بحت، حيث لم يسبق لمجموعة بشرية منذ العهد اليوناني، حيث وجه الحكماء اهتمامهم إلى طبيعتهم وأفكارهم بدلا من توجيهها إلى عالم الأشياء، إلى اليوم، حيث فكرت مجموعة في الجزائر في وضع دستور بطريقة جديدة: مجموعة من الترابندية والحفافات تهيمن على مراكز القرار وتضع قوانين على مقاسها، ومنها قانون المالية، ثم تحول هذه القوانين والوضعيات المكتسبة إلى دستور مطابق لها، وتكون المصادقة عليه مضمونة من طرف البرلمان، لأنه يتكون في أغلبيته من أفراد هذه المجموعة.لا ألوم كثيرا هذه المجموعة لتمتعها بالحق في فعل كل ما من شأنه أن يحافظ على مصالحها وينميها، لومي الشديد أوجهه إلى الطبقة المتعلمة من الأساتذة الجامعيين والمختصين في القانون الدستوري والمحامين والقضاة والجمعيات والنقابات والكتاب والصحفيين، أين كل هؤلاء؟ هل سيقضون مسيرتهم المهنية في المطالبة بالسكن وبالزيادة في الأجور والعمولات وتعويضات الترحال عبر الجامعات العالمية؟ الدستور لا يمكن أن يكتسب هذه الصفة إلا من خلال حوارات ونقاشات واسعة بين المجموعات المتعلمة في غياب المجموعات المثقفة، ولعل أحسن مثال على ذلك يأتينا من الشقيقة تونس.لقد تتبعت كل النقاشات حول دستورها وتعلمت الكثير من المعارف الجديدة، وشاركت في النقاش مع شخصيات ومنظمات مثل الأستاذ مورو ونقابة الصحفيين وأساتذة جامعيين مثل علاني علية وعدة منظمات من المجتمع المدني التونسي، والغريب أنه في بلادي لا أجد أي جهة يمكن أن أشارك من خلالها في الحوار حول هذه الوثيقة بالغة الأهمية، لأنها تؤسس لمشروع مجتمعي يهم كل مواطن جزائري، غير أنه كما يقال عندما يعرف السبب يزول العجب، ويعود الفضل في معرفة السبب إلى الأستاذ بوعقبة، ولقد ثبت ما قلت عنه سابقا، أنه هو الشمعة الوحيدة التي تضيء الظلام الحالك المخيم على الساحة الفكرية الجزائرية، فحالتها أسوأ بكثير مما كانت عليه أثناء الاستعمار، ولعل أبلغ دليل على ذلك يأتينا من الدا الحسين، رحمه الله، حيث مارس العمل السياسي في بلاده أثناء الاستعمار ولم يستطع القيام بذلك في ظل الاستقلال؟بوساحية عبد الله/ مهندس وكاتب صحفي الرئيس لم ينزل ولا مرة إلى البرلمان، لأنه يعتبره غير شرعي، وقد قال عنه إنه انتخب بواسطة الشكارة.. ومع ذلك استخدمه في تغيير المادة 74 في 2008 بطريقة غير شرعية، وبالتالي فعهدته الثالثة والرابعة غير شرعيتين، لأن التغيير أنجزه برلمان غير شرعي، واليوم البرلمان مشكوك في شرعيته، ومع ذلك يستخدمه الرئيس في تمرير الدستور.. وهذا أيضا من الأعمال غير الشرعية.عدم الشرعية هذه يعاني منها النظام داخليا، فما بالك بالشرعية الحقيقية التي تبنى على أساس الإرادة المطلقة للشعب، والتي لا تكون إلا بانتخابات تأسيسية، كما حدث في تونس.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات