+ -

بعد ما يقرب 3 ساعات، كان ربان طائرة الخطوط الإفريقية الليبية يخبرنا بأننا سنحط  في مطار الأبرق شرقي ليبيا. كان المطار الصغير كالجندي المدجج بعدد كبير من الطائرات العسكرية المختلفة، الرابضة على حواشي المطار استعدادا لأي طارئ.. والطوارئ في الأبرق ومدينة البيضاء القريبة من بنغازي شرقي ليبيا كثيرة ولا تنتهي أبدا.. فلهيب الحرب المفتوحة بين الجيش الليبي والجماعات المسلحة من تنظيمات “داعش” و “أنصار الشريعة” من جهة، وحرب أخرى على خطوط تماس الشرق والغرب بين قوات الجيش وقوات “فجر ليبيا” من جهة أخرى، لا تمنح للمدن الصغيرة المتناثرة في شرقي ليبيا لا كثيرا ولا قليلا من الهدوء والسكينة. حين تقبّل الطائرة وجه الأرض تنتابك حمى الخوف الذي تصنعه أيضا كومة الأخبار المتلاحقة عن الوضع المتردي أمنيا وعسكريا في مناطق ومدن شرقي ليبيا، وحين تدخل إلى بهو المطار تبدأ معالم الدولة المتلاشية ترتسم أمامك لتشربك من كأس الخوف..ليس في هذا المكان ما يدل على أن “ليبيا” هي “ليبيا” حقا.. هنا لا معنى للدولة، ولا للمؤسسة، وحده العسكري الواقف على رأس طابور المسافرين القادمين من يحاول أن “يصنع” للدولة الغائبة حضورا ميدانيا، ويصنع للفوضى نظاما.. يحدّق في وجوه المسافرين الواحد تلو الآخر، وفي جوازات سفرهم، يبقي بعضها عنده ويطلب من أصحابها الانتظار في مكان آخر، ويطبع أخرى دون أن يكون في كل ذلك المشهد دور لأجهزة إعلام آلي وكاميرات المراقبة وأجهزة المراقبة الأمنية للحقائب.. ببساطة، لا شيء من ذلك موجود في هذا المطار..يحاول الرجل الفاضل الطيب طيري الموظّف في هيئة الإعلام للحكومة الليبية في طبرق، والذي كان في استقبالنا في المطار، أن يداعب سرائرنا بشيء من الطمأنينة، فكان عليه أن يبذل بعض الجهد، وقد فعل.. حفاوة استقباله وكرمه، كادت تكفي لبعض الوقت، قبل أن ندخل في لحظة من الشك، حين وصلت إلى شباك “شرطي الحدود”، أو هكذا يريد أن يكون، فوضع جواز سفري جانبا، وأبلغني أنه غير مسموح للجزائريين الدخول دون تأشيرة.. أبلغته أنني مدعو من قبل الحكومة الليبية، وأنني كنت أعتقد أن ليبيا رفعت التأشيرة على الجزائريين، لكنه قال لي “إن ذلك يعني حكومة المليشيات (هكذا توصف في الشرق) في طرابلس.. الحكومة الشرعية لم تقرر ذلك”.حاولت حينها الاستعانة بصديقي الطيب موفد الحكومة لاستقبالنا، لكن الطيب كان عليه أيضا أن يستعين بمن “يشفع” عند رجل المطار، وجدنا الحل أن أبقي على جوازي عند الشرطة في المطار، وذاك الذي كان.حكاية وحكاياتلهذا المشهد ما يليه.. في رحلة العودة، يلفت انتباهك أن بطاقة ركوب الطائرة التي تمنح للمسافر في مطار الأبرق، فارغة من أية معلومات تتضمن الرحلة ورقمها ورقم المقعد، يسمح المشرفون على المطار لمعارفهم بالصعود إلى الطائرة لتوصيل قريب أو حبيب.. حين تسأل المضيفة داخل الطائرة عن مقعدك، تقول لك، “خذ أي مقعد واجلس”.. في رحلة العودة، داخل الطائرة طلبت المضيفة من أحد الشباب الذي كان يشغل الممر الرئيسي الجلوس في أي من المقاعد، لكنه أخبرها أنه ليس مسافرا، وإنما أوصل قريبا له فقط، وهو بصدد النزول!مطار الأبرق.. مطار “عليَّ الطلاق..”يعرف مطار الأبرق بمطار “عليَّ الطلاق”، هنا تمتزج الحقيقة بالنكتة، وتقول إن الطرف المسيطر على المطار ينتمي إلى قبيلة واحدة.. والقبيلة مازالت جزءا مهما من منظومة الحكم في مناطق شرقي ليبيا، وحين تحدث خلافات بين هذه القبيلة والحكومة أو وزارة من وزاراتها، تمنع العناصر المسلحة التي تدير المطار مسؤولين وحتى وزراء من السفر، ويحدث ذلك حتى مع مواطنين لأسباب مختلفة، حينها يقسم أحد المشرفين على المطار “عليّ الطلاق لا أنت طالع في الطيارة”. وقبل أشهر حدث أن منع “المشرفون” على المطار بقوة السلاح رئيسَ الحكومة عبد الله الثني من السفر إلى تونس، بسبب خلافاته ومحاولته إقالة زير الداخلية عمر السنكي الذي يواليه المشرفون على المطار!في بهو المطار الذي يفتقد لكثير من معايير الأمن والسلامة والمقاييس المعتمدة في المطارات، يستقبلك بائعو العملة يعرضون صرف مختلف العملات والدينار الليبي، ويهم بك الناقلون الذين ترتفع أصواتهم للإعلان عن وجهاتهم إلى مدن البيضاء وطبرق وبنغازي.. لم تكن لنا حاجة في ذلك، شيئا فشيئا ندخل مدينة البيضاء التي تستقبل فريق حكومة طبرق بقيادة عبد الله الثني.. على طول الطريق نتلمس بعض آثار الثورة على معمر القذافي ونظامه وسلطته، والحرب على المجموعات المسلحة.. مازالت الكتابات الثورية “تزيّن” جدران المدينة، ومازالت الشوارع لم تبرأ من “وهج” ثورة 17 فبراير 2011.. وحدها مدينة البيضاء من كل مدن شرق ليبيا التي حازت على قدر من الهدوء المسكون بهواجس ومخاوف من الإرهاب الآتي من الشرق، إذ لا تبعد هذه المدينة سوى بـ30 كلم على خطوط المواجهة المفتوحة بين الجيش وتنظيم أنصار الشريعة الذي يدين بالولاء لتنظيم “القاعدة”، وتنظيم “داعش”. فقد حاول عناصر هذه المجموعات استهداف حاجز أولا في مدخل مدينة البيضاء، ووصلت قذائف أطلقتها الجماعات المسلحة إلى أطراف المدينة، كما حاول المسلحون الذين ينطلقون من مدينة درنة القريبة، الاستيلاء على مطار الأبرق، وهذا الأخير هو النافذة الوحيدة لليبيين على العالم من جهة الشرق، في ظل عدم إمكانية استعمال مطار بنغازي بسبب الوضع الأمني المتوتر والمتدهور.حجارة غابرةفي شحات بضواحي مدينة البيضاء، مدينة لا تنتهي من الآثار الرومانية، كل ما في شحات يذهب بالمرء بعيدا إلى غابر الزمان الذي صنع فيه الإنسان معجزات قهر فيها الطبيعة.. تكفي هذه الآثار لوحدها أن تكون مورد رزق لليبيا كلها، ولتشغل الآلاف من الليبيين ومن غيرهم، لا يأتي السياح الأجانب إلى هذه المنطقة منذ عقود.. لم يكن نظام معمر القذافي مهتما بالسياحة أو بأمور كهذه، ولا بالآثار كتراث إنساني يحكي قصة الإنسان، العقيدة الأمنية والشعبوية التي كانت تحكم نظامه فوّتت على مدينة شحات فرصة أن تكون أكثر وجهة سياحية زاخرة بالتراث والآثار والمعالم التاريخية والكهوف.في هذه المدينة متحف مغلق بإحكام، قال مرافقنا إن سلطات المدينة قررت إغلاقه بسبب حالة الفوضى التي تشهدها ليبيا، وتلافيا لسرقة الآثار التي يحويها، وهي آثار ثمينة جدا. يقول مرافقنا “لا نود أن يتكرر ما حدث في مصر من سرقة للمتاحف خلال الثورة المصرية، أو ما حدث خلال غزو أمريكا للعراق، أو ما خلفته ظلامية داعش في سوريا.. نحاول بقدر الممكن حماية هذه الآثار”.. ما يحزن الزائر إلى هذه المنطقة الأثرية فوضى المساكن التي أنجزت بداخلها.. بعض الليبيين أنجزوا مساكن واستعملوا أعمدة من الآثار كأعمدة لها.. بالنسبة لمرافقنا فالوقت ليس مناسبا لمحاسبة هؤلاء، يقول “نحن في أزمة الحكومة، والشرعية، والحرب على الإرهاب، وبناء مؤسسات الدولة وتثبيت أساساتها، لذلك لا أعتقد أن الوقت مناسب لمحاسبة هؤلاء على انتهاك الآثار”.من اللافت أن ترى عددا كبيرا من السيارات في المدينة من دون لوحات ترقيم، جزء من الفوضى وغياب الدولة يصنع مشهدا كهذا، خاصة أن الظرف الأمني يفترض أن يمنع وضعا شبيها، إذ يمنح الجماعات المسلحة التي يحاربها الجيش الليبي سهولة استعمالها في عمليات تفجير دون معرفة هويتها.سألت مرافقنا “كيف تسمح الحكومة بجولان هذه السيارات؟”، لكنه فاجأني في ردّه حين أكد أن شراء سيارة غير مرقمة يكلفك أكثر من شراء سيارة مرقمة لسهولة التعامل بشأنها، بدلا من السيارات المرقمة التي تكلف الكثير من الوقت لما تستدعيه من إنجاز وثائق البيع والشراء، في غياب الإدارات العامة ومؤسسات الدولة “المفكّكة” بين طرابلس وطبرق.. غياب أتاح للمراهقين حتى قيادة السيارات دون وثائق وشهادات سياقة، لذلك يمكن لك أن تشاهد أعدادا كبيرة من السيارات المعطوبة، بعضها جديدة، مرمية في محاشر، ويعاد بيعها كقطع غيار.مدارس مغلقة.. وفنون “الحرب” على الأميةلا يدرس التلاميذ في مدينة البيضاء كما في بنغازي ومدن ليبية كثيرة. يؤكد حكيم وهو مراسل صحفي يعمل في المدينة أن الوضع الأمني لم يتح إعادة فتح المدارس بشكل منتظم، “حدث استهدف بعض المدارس بقذائف، وبعض المدارس تفرض عليك توقيع التزام بعدم تحملها أية مسؤولية في حال وقع مكروه، لذلك تفضل العائلات عدم إرسال أبنائها إلى المدارس سوى في فترات معينة يكون فيها الهدوء سيد الموقف”، وحين تصنع الأزمة مأزقا يصنع الإنسان أكثر من فرج.. لا يود الليبيون ترك أبنائهم دون تعليم.. بعض الحلول المؤقتة لتجاوز المعضلة، في بعض المناطق الليبية تم اعتماد الدروس عبر الإنترنت والقرص المضغوط والقنوات التلفزيونية كبديل لتعطل الدروس، على أن يتم إجراء اختبارات متأخرة للتلاميذ لتحديد مستواهم وانتقالهم إلى مستويات عليا.. تلك “فنون الحرب” على الأمية والجهل في انتظار استقرار الأوضاع.ليس الانقطاع عن الدراسة فقط ما يقلق الليبيين، ما يقلق أيضا نقص واضطراب الحصول على المواد الغذائية.. في السادسة صباحا في اليوم الموالي لوصولنا، كان عدد من الليبيين قبالة الفندق يصطفون في طابور طويل أمام المخبزة لشراء بعض الخبز.. أبلغنا مرافقنا أن مدينة البيضاء كعدد من المدن في شرقي ليبيا تعيش اضطرابا في التموين بالدقيق وفي بعض المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع.. لم تتح الحرب والنزاع الدامي انتظام وصول المواد الغذائية إلى مدينة البيضاء كمدن أخرى، ما أدى إلى ارتفاع أسعار الخبز والمواد الغذائية إلى 300% في بعض الأحيان، لكن الحكومة التي تبسط يدها على مدن الشرق تحاول صد هذه الإشكالات وضمان التموين الطبيعي، كما تحاول تجاوز المشكلات المتعلقة بانتظام وصول الرواتب إلى الموظفين والعمال الذين لا يزاول أغلبهم وظائفهم بسبب الظروف الاستثنائية، لكنهم يحصلون في المقابل على رواتبهم.أبواب مفتوحة في انتظار.. الفرجفي ليبيا ما يستحق الحياة، لا يغلق الليبيون أبواب منازلهم في انتظار الفرج، بخلاف ذلك يحاولون التعايش مع واقع متناقض.. في شوارع مدينة البيضاء تشعر أن الإنسان الليبي بات يمارس لعبة الإلغاء بينه وبين الخوف، لم يلغ أحدهما الآخر، ولم يعد الخوف والحرب والسلاح كما أصوات القذائف والقتلى والجرحى أمرا جديدا بالنسبة لليبيين، فالمدينة الصغيرة التي تحتضن حكومة طبرق تنمو عمرانيا بشكل كبير، وسلسلة الفنادق الجديدة والحديثة، بعضها استثمارات للبنانيين، بالكاد تجد لك فيها غرفة أحيانا بسبب كثرة الوافدين من بن غازي ومدن أخرى وإقامة الفريق الحكومي، والمباني الحكومية التي تشيد لا تعطي الانطباع بأن الحياة متوقفة، أكثر من ذلك تتوهج الحياة ليلا، إذ تصبح المقاهي والمطاعم عامرة بالزبائن.. في إحدى ضواحي المدينة منتزه جميل، أسّسه قائد سابق في الكشافة الليبية، استغل الرجل جبلا صغيرا وقام بالحفر تحته وأنشأ مطعما ومقهى في شكل مغارة.. كما يضم المنتزه الخاص بالعائلات شققا فندقية رفيعة ومجهزة، إضافة إلى حديقة ألعاب صغيرة للأطفال، في تلك الحديقة كان أطفال ليبيون مع عائلاتهم يجرون في كل اتجاه، ويديرون وجههم لما يحيط بهم من تناقضات البلد المنهك منذ 4 عقود، لم يعرف هؤلاء الأطفال القذافي ولم يشهدوا الثورة، لكنهم وقعوا بين كفي أمراء الحرب ورجال السياسة ومطامع كبار الأرض، وبين فكي كماشة حكومتين وبرلمانين وجيشين، يزعم كل منهما أنه الأحق بحكم ليبيا.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات