المرحوم آيت أحمد بالتأكيد لا تسعه الكلمات، فهو ثائر القرن، من ثاني قائد للمنظمة الخاصة (O.S) إلى تاسع التسعة الذين فجروا ثورة نوفمبر، خمسة في الداخل وسادسهم المنسق بوضياف، وثلاثة بالخارج هم الوفد الخارجي، ومن بينهم آيت أحمد. وآيت أحمد خامس الخمسة الذين اختُطفوا في الجو وسُجنوا وتحولوا إلى “الزعماء الخمسة”.تشرفت بمقابلة المرحوم آيت أحمد سنة 1999 في بيته بأعالي قصر الشعب، وجلست معه في حديث مطول دام 5 ساعات ونشرته في العالم السياسي في 4 صفحات. طاف بي المرحوم عبر 60 سنة من النضال في كل المحطات، وعندما حركت بأسئلتي بعض المواجع فيه، أوقف رحمه الله آلة التسجيل وذهب إلى النافذة ليأخذ نفسا.. ثم التفت إلي قائلا “قابلت العديد من الصحافيين وأنت أول صحفي يتعبني بأسئلته”.. كنت شغوفا لأعرف تفاصيل ثائر القرن هذا لأنني كنت على يقين أنه لن تتاح لي فرصة لمحاورته ثانية، وأشهد أنني حاورت 4 من الزعماء الخمسة، ولم يشدني أحد إليه بقدر ما فعل ذلك الدا الحسين. ذات يوم ضللني أحد رجال الدولة في الجزائر عند عودة الد الحسين إلى أرض الوطن، فأعطاني معلومات أمنية خاطئة عنه فكتبتها بسذاجة.. وعندما قرأها اهتز.. وفي حفل استقباله بنزل السفير قال للجموع المحتشد لاستقباله من شرفة النزل، وكنت من بينهم، “لقد كلفت المحامي يحيى عبد النور برفع دعوى قضائية ضد جريدة الشعب وضد هذا الصحفي”، وفي المساء كنت جالسا في هيئة التحرير بالجريدة ونزلت برقية وكالة الأنباء الفرنسية تتحدث عن رفع دعوى قضائية ضدي وذكر اسمي بجانب اسم الدا الحسين في أهم وكالة أنباء عالمية.. أحسست بمرارة وخزي لا حدود لهما، خاصة أنه في صباح نفس اليوم اتصل بي مهري بعد قراءة العمود وقال لي “من حقك أن تشتم الحاضر والمستقبل، لكن ليس من حقك أن تشتم الماضي والتاريخ.. آيت أحمد هو التاريخ يمشي على رجليه”. وتحت ضغط الإحساس بفداحة ما ارتكبته، كتبت عمودا في اليوم الموالي قلت فيه إنني ألوم نفسي على فعل هذا.. ولكنني سعيد بأن يُذكر اسمي إلى جانب اسم أحد الأحرار الخمسة الذين كنت أصفق لهم وأغني حتى تندمل يداي.. لسن أدري هل أنا الذي كبرت أم هو الذي صغر.ǃ وأسعد أكثر لو سجنني هذا الحر الذي حررني ذات يوم لأكتب اليوم ما كتبته؟قرأ رحمة الله العمود وتأثر به وقرر العدول عن رفع الدعوى القضائية ضدي.. بل وفي إحدى الندوات الصحفية قال لي “أنت فحل وتعترف بخطئك.. وستأكل الكسكس في بيتي”ǃأتذكر أنني سألته عن موقفه لحظة علمه باختطاف طائرة الزعماء الخمسة، فقص علي لقطة إنسانية لا أنساها “ذهبت إلى قائد الطائرة ووضعت المسدس في رأسه وقلت له سأقتلك إذا نزلت بي في مطار الدار البيضاء”.. فانفجر قائد الطائرة (وهو فرنسي) بالبكاء وقال لآيت أحمد عنده أبناء، فسحب مسدسه من رأسه وسلم أمره لله مع زملائه.وأشهد أيضا أنني بكيت ذات يوم عندما سمعته يصرح في أوروبا، بعد مجازر بن طلحة والرايس، قائلا “أريد أن أشعل النار في نفسي لألفت انتباه الرأي العام العالمي لما يحدث في بلدي”ǃ آيت أحمد كان يريد حرق نفسه قبل البوعزيزي بأكثر من 10 سنوات..رحمك الله يا من لا تحيط الكلمات بأفضاله على حرية الجزائر.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات