لقد صدق مَن شبّه الأيّام بعلب المجوهرات الفارغة، تكتسب قيمتها من قيمة ما يوضع فيها، وبهذا المعنى كان يوم ميلاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أعظم أيّام الله، وقد سُئل عليه الصّلاة والسّلام عن صيامه يوم الاثنين فقال “ذلك يوم ولدت فيه..”.ولد عليه الصلاة والسلام في ظروف كانت البشرية فيها أحوج ما تكون إلى منقذ، فربى وعلم، وأرشد وألهم، وهدى إلى السبيل الأقوم، وقاد سفينة العالم الحائرة إلى بر النجاة. وصدق الله العظيم القائل “لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ظلال مبين”.فهو رحمة الله المهداة، ونعمته المسداة، وما أجمل قول أبي العباس المرسي “الأنبياء لأممهم عطية، ونبينا لنا هدية، وفرق بين العطية والهدية، فالعطية للمحتاجين، والهدية للمحبوبين”.ففضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البشرية لا حد له، وفي ذلك يقول شرف الدين البوصيريفإن فضل رسول الله ليس لهحد فيعرب عنه ناطق بفموإن ما جادت به قرائح الشعراء، وما خطته أقلام الأدباء، وما قاله المؤرخون والمفكرون، على كثرته وروعته، لا يزيد عن كونه مجرد فهارس وعناوين تقرب ملامح عظمته صلى الله عليه وسلم إلى الاذهان، إاذاً فلا عجب من أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إلى خلقه، فالنفوس مجبولة على حب الحسن والإحسان، وفيه اجتمعا، وما أروع قول حسان رضي الله عنه:وأجمل منك لم تر قط عينيوأفضل منك لم تلد النساءولتحريك هذه المحبة في القلوب وتفعيلها في الواقع، لابد من قراءة واعية متجددة لسيرته عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام ابن باديس “فعودوا بالذكرى إلى حياة هذا النبي الكريم، فاستمدوا منها نور إيمانكم، وجددوا بها صرح توحيدكم”.ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله سبحانه، ومن زعم أنه يحب خالقه ومولاه، وجب عليه أن يتبع حبيبه ومجتباه. فما أرخص الحب إذا كان كلاما، وما أغلاه إذا كان صدق نية، وسلامة طوية، ويقظة ضمير، واستقامة عمل، وسمو أخلاق.يقول الإمام الحسن البصري “زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم”. أما الإمام ابن كثير فيقول “هذه الآية حاكمة على كل من يدعي محبة الله وليس على الطريقة المحمدية”. فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل له أكثر مما طلب، وهو محبة الله إياه، ومن كلام بعض العلماء الحكماء “ليس الشأن في أن تحِب، ولكن الشأن في أن تحَب”.فالكلام عن مظاهر حبه صلى الله عليه وسلم يطول، ولعل حديثي الترمذي يلخصان ذلك كله، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحَاسِنَكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون المتشدقون”. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون، ما المتشدقون؟ قال “المتكبرون”. وفي بعض الروايات “أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافهم، الذين يألفون ويؤلفون”.وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم “يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل”، ثم قال “يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة”. بيّن هذا الحديث أن سلامة الصدر من أبرز مظاهر حبه عليه الصلاة والسلام. “فمحبة الله ورسوله تبدأ في القلب تصديقا، وتنتهي في عالم السلوك تطبيقا”. وفي الختام أقول: عندما نحاكم واقعنا إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من مبادئ سامية، وقيم رفيعة، ومثل عليا، وأخلاق فاضلة، سننتهي إلى القول بأن هناك خللا لا بد أن يعالج، وأن هناك تصدعا لا بد أن يرمم. وفق الله الجميع لحسن اتباع المصطفى.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات