تحول تعليم اللغة العربية في الجزائر إلى أحد المواضيع الأكاديمية التي تثير اهتمام الباحثين في الجامعات الوطنية، نظرا للرهانات التي تواجهها اللغة الرسمية للبلاد وإشكاليات مناهج تعليمها ومدى تداولها في الخطابات الرسمية، لاسيما بعدما ألهبت قصة التعليم بالعامية في الابتدائي صيف الجزائريين وظلت تتصدر قائمة المواضيع الأكثر جدلا في وسائل الإعلام والشارع. احتضنت جامعة قاصدي مرباح بورقلة ملتقى “تعليمية اللغة العربية الفصحى في المؤسسات التعليمية”، لبحث أسباب تراجع اللغة العربية في المدارس والتعرض لمشكلات التخطيط اللغوي، وأخرى تتعلق بنظام العربية وقواعدها. وقبل ذلك نظم مختبر تعليمية اللغات وتحليل الخطاب بكلية الآداب واللغات بجامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف الملتقى الدولي الثالث حول تعليمية اللغة العربية في 27 و28 أكتوبر، لبحث السياسات التعليمية لتطوير التعليم وجعله يخدم آفاق وطموحات المجتمع، وهذا في انتظار عقد المؤتمر الدولي حول اتجاهات حديثة في تعليم العربية وتعلمها بجامعة الشارقة في مارس المقبل، والذي سيعرف مشاركة باحثين من الجزائر، لدراسة أساليب تطوير تعليم اللغة العربية وتعلّمها في المدارس، ومواكبة التطوّرات العالميّة الحديثة في مجال تعليم اللغة العربيّة وتعلّمها.ويرى الباحثون أن طرق تعليم العربية في الجزائر ضعيفة، وأن المؤسسات التعليمية تعتمد على مناهج كلاسيكية لا ترقى لتلك المستخدمة من قبل باقي اللغات في العالم، ما يتسبب في عدم التحكم الجيد بها، كون الكثير من الجزائريين لا يتقنونها، بمن فيهم الحاملون لشهادات عليا، في وقت ينبغي اتخاذ العربية لغة تعامل وتواصل بين الجزائريين وليس لغة تدريس فقط، نتيجة للرهانات التي تواجهها اللغة الأولى والرسمية في الجزائر، في ظل ما يسمى اليوم بصراع اللغات أو الحروب اللغوية التي يسعى فيها كل طرف لفرض لغته على غيره من الشعوب.تعليم الفصحى بالعامية؟!اليوم، لا يتعدى استخدام اللغة العربية حدود جدران الأقسام، وذلك مع العامية التي تستحوذ على الحصة الأكبر من الوقت، في الشرح والإجابة والتواصل، بينما تنحصر العربية الفصحى في القراءة والكتابة فقط، هكذا تقول لـ “الخبر” صابرة، أستاذة مادة العلوم الطبيعية في المتوسط، وتضيف “أحاول إجبار التلاميذ على الحديث بالعربية السليمة داخل القسم على الأقل، ولكن الأمر صعب، كون معظم الأساتذة يعتمدون على العامية في التواصل معهم، لقد تعودوا على الأمر”. وتعتبر الأستاذة أنه يجب فرض اللغة العربية السليمة على الأقل في حدود قاعات الدروس. وعن أساليب تعليم الفصحى دائما، يقول فاروق وهو أب لثلاثة تلاميذ “أبناؤنا يجدون صعوبة كبيرة في التعبير بلغة عربية سليمة، ويعبرون عن أفكارهم بالعامية بسهولة، أي أن مشكلتهم مع اللغة تتعلق بالاستعمال”، ويضيف “ألاحظ أن الأطفال يتعلمون المفردات والعبارات بالعربية من الرسوم المتحركة أكثر منه في المدرسة”.وينطبق هذا الأمر على غالبية التلاميذ في مختلف المراحل التعليمية وحتى الجامعة، حيث تكون الفصحى محدودة الاستعمال داخل الوسط التعليمي في حد ذاته، وهنا تقول سامية أستاذة اجتماعيات في الثانوية “عندما أقرأ أوراق الامتحانات أصاب بصدمة كبيرة، التلاميذ يرتكبون أخطاء فادحة في العربية، في الصرف والنحو والكثير من الكوارث الإملائية والتركيبية أيضا”، وتضيف “اقترحت أكثر من مرة في اجتماع الأساتذة أن نحاسب التلاميذ على الأخطاء اللغوية في الامتحانات، لكنهم رفضوا، معللين ذلك بأن الأمر سيجعل نتائجهم ضعيفة جدا، بمعنى يجب أن نحاسبهم فقط عن المعلومة بغض النظر عن اللغة غير السليمة التي يستخدمونها”. في المقابل تقول يمينة أم لتلميذة في الابتدائي “هناك معلم يحاسب التلاميذ على الأخطاء اللغوية ومعلم لا يحاسبهم، بالنسبة لي أؤيد التشديد في الأخطاء مهما كان نوعها وخاصة اللغوية، حتى يتمكن التلميذ من إتقان لغته الأم جيدا”. وتشير يمينة إلى أن على أولياء التلاميذ التخلي عن فكرة أن المهم هو حصول أبنائهم على علامات جيدة بغض النظر عن مستواهم الضعيف.ويشمل التعامل بالعامية مكان العربية الفصحى في المؤسسات التعليمية الأساتذةَ أيضا، حيث تقول فطيمة أستاذة البيولوجيا بالمدرسة العليا للأساتذة في سكيكدة “لا أنكر أني أشرح الدرس بالعامية وأن الطلبة يتفاعلون بالعامية في طرح الأسئلة والإجابة والنقاش أيضا، واستخدامنا للفصحى يقتصر على الكتابة فقط، يعني جميعنا أساتذة وطلبة نرتكب أخطاء لغوية ولا نهتم بسلامة اللغة العربية، ما يهمنا المعلومة فقط”. وتواصل فطيمة “نعترف بضعفنا في لغتنا الأم منذ كنا طلبة، لأننا ببساطة لم نتعود على التواصل بها، أحيانا أستعين بالقاموس لفهم بعض الكلمات العربية في كتب المشارقة”. من جهتها تقول مريم طالبة في نفس المدرسة عن تجربتها الشخصية “أعرف أننا كمشروع أساتذة يتوجب علينا التحكم في لغتنا، لكن تكويننا بهذا الشكل في جميع مراحلنا الدراسية يجعل اعتمادنا الكلي على الفصحى في التواصل مع تلاميذنا مستقبلا صعبا للغاية”، وتعلق ذات المتحدثة بسخرية “في الفرنسية مثلا لو ننسى حروف الجمع فقط في الامتحانات نحاسب عليها، لا يمكن الاعتداء على اللغة من أجل المعلومة، في العربية العكس تماما”.التواصل لتعلم العربيةما يحدث في المؤسسات التعليمية من تشويه للعربية واغتصاب واضح لقواعدها، ومحدودية استخدامها في التواصل، انعكس على المستوى العام للجزائريين في لغتهم الأم الذي يوصف بالضعيف، وتحول أي اجتهاد لاستعمال عربية سليمة في محيط أوسع بقليل في داخل المدرسة مثلا يثير سخرية الآخرين واستهزاءهم، تضحك روان تلميذة في الثانية متوسط عن سؤالنا الموجه إليها حول استعمال العربية في الحديث داخل المدرسة “مستحيل والله زملائي سيجعلون مني مسخرة”. مقابل هذا الوضع، يطرح الباحثون في مجال اللغة العربية في الجزائر إشكالية التواصل وضرورة مسايرة المناهج والبرامج التعليمية الحديثة في تعليم اللغة العربية القائمة على التداول وتكوين المعلمين من أجل تجاوز هذا الضعف اللغوي. على غرار الدكتور عبد الله بوقصة بجامعة الشلف الذي أكد، في دراسة علمية حول تعليمية اللغة العربية في الجزائر، أن تدريس نشاطات اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم اتسم بالعشوائية والتراكمية وفق مناهج وطرائق تربوية كلاسيكية، يوظف فيها المعلم معارفه لتبليغها للمتعلمين، على أن يطالبهم لاحقا بحفظها واستظهارها. ويقول الدكتور إن ما يعاب على هذه الطريقة التقليدية افتقارها إلى أهداف العملية التعليمية، فيكون المتعلم مستقبلا للمعرفة دون المشاركة فعليا في العملية التعليمية، أي أنها توفر معلومات هائلة دون أن تحرر تلقائية المتعلم المبدعة. ويطرح ذات الباحث المقاربة بالكفاءات التي يعتبر أنها توفر المعلومات وتضمن مبادرة المتعلم في بناء معارفه، لكن على حساب عامل الوقت، ليخرج في النهاية الدكتور عبد الله بنتيجة علمية مفادها أن المقاربة اللسانية التداولية القائمة على دراسة اللغة في إطار الاستعمال والتواصل هي البديل في تعليم اللغة العربية وتدرب المتعلم على استعمال اللغة في التواصل، وهذا الفعل التعليمي يرسخ في ذهن المتعلم.أية إرادة للترقية “العربية”؟!اقتراح الباحثين بضرورة الاعتماد على مقاربة تعلم اللغة العربية في إطار الاستعمال والتواصل، على الأقل داخل المؤسسات التعليمية في الجزائر، يبقى بعيدا جدا عن اهتمامات وزارة التربية التي تتمسك بالمناهج التعليمية الكلاسيكية بعيدا عن الدراسات الحديثة في مجال تعليمية اللغات، قبل أن تفجر موضوعَ التعليم بالعامية في خطوة اعتبرها الكثير بالفكرة الساذجة والعشوائية، في حين قال آخرون إنها تكشف عن النوايا الحقيقية للوزارة التي لا تسعى لترقية اللغة العربية وتطويرها بقدر ما تهدف إلى إضعافها أكثر.وكان الجزائريون قد أمضوا صيفا ساخنا حول مقترح تدريس تلاميذ الأقسام التحضيرية والابتدائية باستعمال “العامية”، بناء على تصريح من وزارة التربية والتعليم شهر جويلية الماضي. وهو الخبر الذي أثار الكثير من الجدل إعلاميا وفي الشارع أيضا، بين مؤيدين ورافضين لهذه التوصية التي جاءت كنتيجة من نتائج ندوة الإصلاح، والتي تهدف حسبهم إلى مراعاة بيئة الطفل قبل التدرج في تلقينه العربية الفصحى، إذ أكدت الوزيرة “المختصون والبيداغوجيون أجمعوا على أنه يمكن للتلميذ تطوير كفاءاته في المراحل الأُولى من التعليم باستعمال لهجته الأم”، وحسب الدكتور عبد الله بوقصة، فإن الفرق بين اللغة الفصحى ونظيرتها العامية من شأنه أن يفرق ألفاظ اللغة بين القبائل والعروش والقرى والمداشر حين تكون اللغة كلاما شفهيا، مؤكدا “إذا تبوأت العامية مكانة مرموقة، فإنها تعقد البنية الاجتماعية، ويتشتت شمل الناشئة من جراء استخدام اللغة العامية بلهجاتها المتعدّدة في بلاد بمساحة الجزائر، وبثراء أطلسها اللهجي، ويصير الأمر أخطر إن غدت العامية لغة وطنية رسمية، ووسيلة تعلّمية تعليمية وكذا مشروع مدرسة”.وأشار الدكتور بوقصة إلى أنه سبق لكاتب ياسين أن دعا إلى البحث عن لغة فنية للمسرح الجزائري الذي طالما عانى من مشكلة تواصل بينه وبين جمهوره، وذلك باصطناع لغة ثالثة تكون مفهومة بين جميع الشرائح الاجتماعية الجزائرية، وهو الأمر الذي يعتبره ضربا من ضروب العبث في وطن يحتوي على العشرات من اللهجات المحلية. “إذا كانت هذه المشكلة معقّدة في الساحة الفنية والركح المسرحي، فهي في منظومتنا التربوية أشدّ تعقيدا وتأثيرا على أزماتنا التربوية، مشكلتنا منذ الاستقلال إلى اليوم هي أنّنا نعتقد أن لغتنا العربية الحلقة الأضعف، فنحمّلها مسؤولية كلّ خيباتنا ومآسينا ونكساتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية”.ويضرب الباحث مثالا على قدرة الجزائريين على فهم العربية الفصحى “لقد فهمها أجدادنا برغم تفشي الأمية بين أوساطهم بفضل حفظهم كتاب الله، ولم يشتكِ غالبيتهم من متابعة نشرة الثامنة باللغة العربية الفصحى، بأصوات صحافيين على غرار محمد ملائكة وعلي غراس ومدني عامر وزهية بن عروس”. “العربية لغة رسمية”.. مجرد شعاراستمر الجدل حول التدريس بالعامية، قبل أن ينهي الوزير الأول عبد المالك سلال، في 20 أوت الماضي، أي قبل أسبوعين فقط من الدخول المدرسي، الجدل حول “العامية”، بتصريح من قسنطينة “العربية لغة دستورية، تم بموجبها الفصل نهائيا في الهوية والشخصية الوطنية”. التصريح يحمل الكثير من التناقض، ما يجعل عبارة “العربية لغة دستورية” مجرد شعار هدفه تهدئة الشعب وردود الأفعال المعارضة لقرار التدريس بالعامية لا غير. ويكمن التناقض في تصريح الوزير الأول بأن اللغة الرسمية للبلاد هي العربية، في كون الوزير الأول نفسه ومعظم الوزراء والمسؤولين الجزائريين لا يستعملون لغتهم الأم في الخطابات الرسمية، ويعتمدون بدلا من ذلك على اللغة الفرنسية، باعتبارهم أصحاب القرارات وممثلي الدولة، ما يتوجب عليهم في هذه الحالة الحديث بلغة دولتهم التي يؤكد الوزير الأول أنها “العربية” كما ينص على ذلك الدستور.لكن الواقع يقول إن اللغة الفرنسية مازالت تهيمن على اللغة العربية في المراسلات الرسمية ومؤسسات الدولة، وتحول تعلمها وإتقانها في الجزائر أكثر أهمية من إتقان العربية، باعتبارها كما يردد الشباب “ماتوكلش الخبز”، في إشارة إلى كون جميع المؤسسات في الجزائر لا تتعامل باللغة العربية وتفرض إتقان اللغة الفرنسية من أجل العمل بها، وهذا رغم حديث الدولة المستمر حول جهودها لترقية اللغة العربية التي لا يتقنها المسؤولون، وبعث المجلس الأعلى للغة العربية كهيئة تابعة لرئاسة الجمهورية من مهامها تدعيم تعليم اللغة العربية وترقيتها، عن طريق إصدار منشورات علمية وأدبية بالعربية، ومجلة المجلس التي تتضمن مقالات حول تحديات “العربية” في عصر تكنولوجيات الإعلام والاتصال التي فرضت “لغتها الجديدة” في الجزائر وغيرها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات