38serv

+ -

 عندما التحقت أستاذة اللغة العربية حورية شغبة، بسلك التعليم  ذات سبتمبر من سنة 1978، لم تكن قد بلغت الثامنة عشرة، كانت شابة يافعة، تحمل الكثير من الأحلام لنفسها ولمهنتها التي ورثت حبها عن والدها مولود الإطار في وزارة التربية.البداية كانت من ابتدائية “حديقة بيروت” في تيليملي، سابقا، قبل أن تنتقل سنة 1981 إلى المدية، حيث قضت سنة كاملة تخرجت بعدها أستاذة في التعليم المتوسط، ومن المدية تنقلت كنحلة في بستان بين متوسطات العاصمة “باستور” و”الكاهنة” و”أم عمار سمية” و”حديقة الحرية”، لتنتهي بها رحلة العطاء إلى إكمالية ابن الفحام في حي محي الدين.37 سنة كاملة، هي ثلاثة أرباع عمرها، قضتها حورية داخل أقسام عادة ما تفتقد إلى أبسط الشروط الآدمية لممارسة مهنة التعليم، لكنها رغم كل المتاعب والمصاعب، قررت منذ البداية أن تلغي من قاموسها مصطلحات “الغياب” و”التأخر” و”العطل المرضية”، فقد اشتهرت بين زميلاتها ولدى التلاميذ وأوليائهم بالجدية والمثابرة وعدم التأخر عن إعطاء المزيد من جهدها ووقتها، فحورية كانت تعشق تمكين التلاميذ من أنشطة ثقافية إضافية لم تطلب عليها جزاء ولا شكورا.مهنة التعليم أنهكت جسد حورية شغبة الصغير، الرقيق، الملائكي، فقد أصابها السكري قبل أن تصل عقدها الخامس، ونال منها الضغط وأصيبت في كليتها، لكنها قاومت كل هذا، كما قاومت تنكر الإدارة وعدم تفهمها وبقيت على نفس جديتها. قبل أشهر قليلة، اضطرت أستاذة اللغة العربية إلى طلب الخروج للتقاعد ولم يتجاوز سنها الخامسة والخمسين، فجسدها لم يعد يسعفها، كما أن الإدارة مارست عليها ضغوطا رهيبة حتى أشعرتها بأن وجودها صار عالة على القطاع. مؤلم جدا أن تفني ثلاثة أرباع عمرك في مهنة ليقال لك في الأخير: يا الله بالسلامة لم نعد في حاجة إليك.ربما التعليم لم يعد في حاجة إلى حورية شغبة، فهي سنة الحياة.. سنة التدافع، لكن حورية شغبة كانت بحاجة إلى التعليم، كانت بحاجة إلى الاعتراف والتكريم والمساعدة والكلمة الطيبة، لا شيء من هذا، فقد استخسروا فيها حفلا بسيطا تودّع بعده كراريسها وتلاميذها، استخسروا فيها منحة تساعدها على مواجهة مصاريف المرض المهولة.. إنها قمة الجحود.. إنه جزاء سنمار الذي يواجهه كل يوم مئات الأساتذة قدموا للجزائر كل الحياة ولم يجنوا سوى الموت.قبل أن تتقاضى سنتيما واحدا من تقاعدها، انتقلت حورية شغبة إلى رحمة الله مستسلمة لمرضها العضال، ومستسلمة لحزنها وشعورها بالمرارة، فـالمرض لم يكن ليهزمها لولا أن المسؤولون على قطاع التعليم أشعروها بأن كل تضحياتها ذهبت هباء منثورا.وليت حورية شغبة عاشت ساعات إضافية فقط لتشاهد تلاميذها وهم يقفون دقيقة صمت في ساحة إكمالية ابن الفحام ترحّما على روحها الطاهرة، قبل أن تنقل إلى مثواها الأخير بمقبرة العالية، حيث دفنت في نفس قبر والدتها، إنها أجمل الاعترافات.. اعتراف التلاميذ بما قدّمه الأستاذ.. فليذهب بعده نكران الإدارة وجحودها إلى الجحيم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: