"لن يكون للرواية دورالرائد في الثقافة العربيّة"

+ -

يعتقد الروائي اللبناني، رشيد الضعيف، أنه لن يكون للرواية دور الرائد في الثقافة العربيّة. وقال إن الحميّةُ تذهب أحيانًا ببعض الروائيين أو ببعض النقّاد إلى اعتبار الرواية رأس حربة في عمليّة التغيير الاجتماعي والسياسي، ومنهم من يبالغ في تقدير دورها، بحيث يذهب إلى الكلام عليها كأنها ”فرقة صدم”! وتساءل الضعيف في حوار مع ”الخبر”، هل تقفّى هؤلاء الأثرَ الذي تتركه المسلسلات التلفزيونيّة في الناس، شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساءً؟ ” وأجاب أنه لا يظن أنه يبالغ إذا ما قال إنّ شكل الهاتف النقّال أبعد أثرًا في تشكيل الوعي من الرواية. فعشرات الملايين من الشباب يمضون، حسبه، الساعات الطوال قابضين على هواتفهم النقّالة. وعليه، فإنّ الهاتف النقّال عند هؤلاء الشباب أفعل في تشكيل وعيهم من فنّ الرواية. من فنّ القصيدة. من المسرح.يدرك قارئ أعمالك الروائية، أنك دائما تتحاشى الوقوع في نفس الموضوع، رغم أن الروائيين يتحدثون عن ”هاجس مركزي”، هل يوجد ”ثيمة رئيسة”  تشكل محور أعمالك الروائية؟ أغلب الكتّاب يتناولون موضوعًا ويغوصون فيه ويتوسّعون. هذا أمر معروف في جميع أنواع الفنون اللغوية وغير اللغويّة. ولا أظنّ أنّ هذا فعل إرادي، بل هو في طبيعة الأشياء. من الصعب أن يُبَدِّل الكاتب جلدَه. وحتى إذا ما استطاع تبديل جلده فإنّه يبقى هو ذاته. ولكنني رغم معرفتي بهذا الأمر، فإنني أحاول أن أتناول مواضيع مختلفة. فبين روايتي ”المستبد” مثلًا التي أتناول فيها قصة أستاذ يبحث عن خلاص بدايةَ الحرب الأهليّة في لبنان، و«معبد ينجح في بغداد” التي تروي قصّة مغنٍّ انتقل من المدينة إلى بغداد أثناء حرب الأمين والمأمون، فرق كبير، ولكنني ”أنا” الذي كتبتهما رغم هذا الاختلاف الكبير. ثم إنني انتقلت من ”الشعر” إلى الرواية، والفرق بين الاثنين كبير ويفيد بأنني لا أستقرّ على نمط، لكنني أنا الذي كتبت الاثنين هذين.بدأت شاعرا، ثم انتقلت للرواية.. هل لأنك كنت تؤمن بأن العصر هو عصر الرواية؟ لم أجد نفسي في الشعر، بكلّ بساطة، وأنا أسعى دائمًا حين أكتب أن أكون نفسي، وربّما كان ذلك لأسباب، منها أنني كنت أعتقد حين كنت شيوعيًّا، أنّنا، نحن العرب، بحاجة إلى ما كنّا نسمِّيه وقتها ”الروح العلميّة”، وهذه كانت، في مفهومنا، ضدّ الشعر. كان في زعمنا أن من واجبنا كطليعيين وثوريين أن نبثّ ”الروح العلمية” التي تحرّر من الأساطير والخرافات. بينما الشعر كان عاجزًا عن لعب هذا الدور. ثمّ إنّ الشعر، رغم كلّ ما يُقال، ليس فنًّا ”معتبَرًا” عند الناس، وخاصّة عند أصحاب دور النشر.. إِلَّا اللَّهُمَّ إذا كُنتَ فريد زمانك. فحين تأتي عند ناشر بديوان فكأنّك أتيته بحِمل من الهموم! ثمّ إنّ الرواية تقول والشعر (أقصد القصيدة) يُخفي أكثر ممّا يقول. وللرواية قرّاء كثيرون، بينما الشعر قرّاؤه قليلون رغم كثرة كتبته. إضافةً إلى كلّ ما تقدّم، فإنني قلت في الشعر ما أردت قوله ولم يعد عندي شيء أضيفه! وأخيرًا، ربّما لم أنجح في صناعة قصيدة لشِعري!وما هي مكانة الشعر اليوم في أعمالك الروائية؟ هناك لا شكّ فرق بين الشعر والقصيدة. فالقصيدة نمط وجود الشعر وهي تاريخيّة جدًّا، أي إنّها تتبدّل من زمان إلى زمان، بل من مكان إلى مكان، بينما الشعر ”خالد”. الشعر دائمًا يشبه ذاته. القشعريرة ذاتها والدهشة ذاتها والطفولة اللمّاعة ذاتها ومساءلة الأشياء ذاتها والغوص في الأسرار ذاته والبحث عن الينابيع ذاته واللعب باللغة ذاته، ثمّ إنّ نمط وجود الشعر ليس القصيدة فقط، إنه في كلّ مكان وبخاصّة في التكنولوجيا ”شكل” السيّارة ”قصيدة” و«شكل” الهاتف النقّال ”قصيدة” واللوح الالكتروني كذلك إلخ.. أحيانًا أشعر أنني ”أسكب” شعرًا في بعض من رواياتي، وهذا ما تمكّن رؤيته بوضوح في روايتي ”ألواح”.ولماذا فضّلت الكتابة بصيغة الأنا؟ الكتابة بصيغة الأنا، عندي، ضرورة أوّلًا ثمّ خيار. ضرورة بمعنى أنها جاءتني عفوًا. لم أفكّر ولم أقرّر أن أكتب بهذه الطريقة. لم أجد نفسي إلا على هذه الحال. وجدت نفسي وأنا أكتب بهذه الصيغة، أشعر بحرّية وبأن المدى أبعد. ووجدت نفسي أشعر بأنني في ثيابي المناسِبة. لكنّ هذا لا يعني أنني أكتب عن ”نفسي” بالضرورة. فقد أكتب عن نفسي وقد أرسم شخصيّات مختلفة أتلبّس جلدها محاولاً الرؤيةَ بعيونها. يستهويني أن أضع نفسي مكان الآخرين وأن ”أتبنّى” صوتهم ومنطقهم. فقد أكتب بضمير المتكلّم عن ”شخص” لا أُحبّه، ولا أحبّ أن أشبهه في شيء، لكنني حين أتصوّر نفسي مكانه أكتب بحرّيّة قصوى، وبرغبة زائدة في الكتابة. هذا من حيث الضرورة، أمّا من حيث الخيار، فإنه كان من باب الاعتراض على الايديولوجيّات الكلّية العلمانيّةً منها والدينيّة. لقد بدأتُ أكتب روايةً بداية الثمانينات، وكنت في ذلك الوقت في ذروة اعتراضي على الحرب في لبنان التي دامت من عام 1975 إلى عام 1990. كانت الأطراف في هذه الحرب كثيرة، وكان كلّ طرف يَقْتُل باسم دين أو طائفة أو فلسفة مفسِّرة للتاريخ. وكان لكلّ طرف شهداء، ”يسقطون” من أجل القضيّة، وقد تكاثر الشهداء حتى بات الوضع منذرًا بالتضخم الشهدائي على مثال التضخّم المالي، بل قد بلغنا هذه الحالة وتضخّمت أعداد الشهداء حتى تدنّت قيمتهم للأسف! بات لدينا تخمة من الشهداء، والشهيد هو من يُقْتَل من أجل قضيّة، وهو من يضحّي بنفسه من أجل قضيّة... وأنا في كتابتي الشعريّة والروائية اعترضت على هذه الحالة، على شلالات الموت، ودعوت إلى الخوف! إلى الخوف الخلّاق، وقلت في كتابي الشعري ”لا شيء يفوق الوصف”: أخاف من دون خجل! وقلت: أخاف من كلّ الجهات! ثمّ كتبتُ روايتي الأولى ”المستبد” بصيغة الأنا، وكأنني أريد ردّ الاعتبار إلى الحياة والى أهمية الإنسان الفرد، وإلى خطر الذوبان في القضايا العامَّة الكبرى... وذلك حتى لا يفنى البشر وتبقى القضايا! (لكن هذا ما صرنا إليه اليوم للأسف الشديد، فإننا نفنى وتبقى القضايا. لم يبلغ صوتي الآذان الفاعلة!).يحضر الجسد باستمرار في جل أعمالك، لماذا؟ المقصود بالجسد هنا الجنس، على ما فهمت. هنا أيضًا لم أتقصّد ذلك. فما وجدت نفسي إلا في هذا السياق. يبدو أن الكاتب لا يختار مواضيعَه، وبخاصّة مواضيعه العميقة، لأنها جزء منه ليس مضافًا إليه. إنّها فيه. وبهذا المعنى فإنّ مواضيعي ”تختارني”. أظنّ أنّ من يختار مواضيعه لواجب ما، لواجب وطني أو ديني أو إنساني أو اجتماعي، إلخ... يخسر نفسه ويخسر العالم في الوقت ذاته. لكنّ هذا لا يعني أنّ من ”تختاره” مواضيعه لا يمكن أن يكون مواطنًا صَالِحًا محبًّا لوطنه حتى التضحية بالذات، أو فاعل خير لا تغمض له عين إذا ما جاع جارُه.ثمّ، ولمَ لا الجسد؟ لمَ لا أتكلّمُ عن الجسد؟لأنّ الجسد هو كلّ شيء! نعم كلّ شيء! هو الجسد أوّلًا وهو الجسد ثانيًا وهو النفس وهو الروح وهو الحاجة وهو الاكتفاء وهو العزة وهو الرضا، وهو الرغبة وهو النفور وهو الجوع، وكذلك هو الشبع والعطش والارتواء. وإذا ما قُصد بالجسد الجنس، فإنّ الجنس هو الجسد بكلّ صفاته. لم يقصّر العرب القدماء في الكلام على الجسد في الشعر وفي النثر. الكلام على الجسد باب من أبواب القداسة، والاهتمام بالجسد عتبة ضروريّة إلى القداسة، وخطوة لا بدّ منها ليكون الإنسان في مأمن من الشرّ والدنس. وإلّا فما معنى ”لا حياء في الدين”؟ ثمّ إن الجسد في الأدب العربي الحديث، من علائم حداثته. والمقصود هنا بالجسد حرّيته. إنّ حرّية الجسد ”ثيمة” حداثيّة في كل أنواع الفنون، في الشعر والرواية والمسرح والسينما. إنّ شعر نزار قبَّاني حديث ”بثيماته” خاصّة... جسد المرأة مورد اللذة ومصدر الإلهام.تقول في تصريحاتك الصحفية إنك لا تكتب أدبا جنسيا.. ماذا تكتب إذن؟لا أكتب أدبًا ”جنسيًّا” أي أنني لا أكتب أدبًا ”إثاريًا”، إيروسيًا. بل أكتب عن علاقة بين الرجل والمرأة. وهذا ما يقودني بالضرورة إلى الكلام على ما يجري بينهما. وما يجري بينهما متنوّع، ومنه ما هو حميم، وما هو حميم يُفصح عن قناعة الاثنين العميقة وعن مفاهيم الاثنين المتجذّرة فيهما. إنّ سلوك المرأة في الفراش يفصح عن نفسيّتها لا شكّ، لكنّه يفصح أيضًا عن القيم التي تعتقد بها، والتي يتحدّد سلوكها بها. لذلك أرى من الضرورة، روائيًّا، الكلام على هذا السلوك في هذه اللحظات الحميمة. يخاف الرجل من معرفة المرأة بأمور اللذة والجسد، لذلك أصف سلوكها في الفراش حتى أصاعد خوفه وغيرته. حين ينتبه الرجل إلى أنّ زوجته أو حبيبته، أو شريكته، مبادِرة وعارفة و”خبيرة” يخاف ويُصدم ويخيب. الفراش بهذا المعنى مكان لا تخفى فيه القيم التي تتحكَّم بالسلوك، بل تتضّح. وفي الفراش تتجسّد المفاهيم. ”إن كلمة كلب لا تنبح، من ينبح هو الكلب!”، لذلك فإن إلحاحي أحيانًا على ما يجري في الفراش ليس من باب الإثارة على الإطلاق، إنما من باب الضرورة الروائيّة. الفراش مكان صراع بين الحداثة والتقليد. المرأة العربية أكثر انتباهًا للمكتسبات التي تحقّقها المرأة في العالم وبخاصّة في الدول الغربية. إنها منتبهة بحدّة إلى هذه المكتسبات وذلك مهما تحجّبت. وهي تعتبرها بمعنى ما، مكتسبات لها. فالمرأة إذن تحوّلت، أو تختزن الرغبة في التحوّل مهما بدا أنها قابعة تنتظر عودة زوجها لتستقبله بابتسامة دافئة. أمّا الرجل فغارق في غفلته، ومتّكئ إلى مكتسباته التاريخية، غير دار بأن البساط يُسحَبُ بخفة من تحته، شيئًا فشيئًا وباضطراد. لا بدّ لي، قبل أن أُنهي جوابي عن هذا السؤال، أن أوضِّح التالي: قلت إنني لست كاتبًا ”إباحيًّا”، لكنني لست ضد الكتابة الإباحية. من أراد أن يمارس هذه الكتابة فهذا حقّه بلا ريب. ومن هذه الكتابات ما هو جدير جدًّا، بل منها ما يُعتبَر من عيون الأدب.هل تعتقد أن الرواية العربية ستكون فعلاً صاحبة الدور الأكبر في الثقافة العربية خلال الفترة المقبلة؟ لا! لن يكون للرواية دور الرائد في الثقافة العربيّة. لا أظنّ أنّها أفعل دور من المسلسلات التلفزيونيّة، أو من السينما، أو ممّا اعتُمد على تسميته بوسائل التواصل الاجتماعي، أو من الهاتف النقّال. ملايين الناس منصرفة إلى هذه الفنون وهذه الوسائط. ملايين الشباب. تذهب الحميّةُ أحيانًا ببعض الروائيين أو ببعض النقّاد إلى اعتبار الرواية رأس حربة في عمليّة التغيير الاجتماعي والسياسي. ومنهم من يبالغ في تقدير دورها، بحيث يذهب إلى الكلام عليها كأنها ”فرقة صدم”! فهل تقفّى هؤلاء الأثرَ الذي تتركه المسلسلات التلفزيونيّة في الناس، شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساءً؟ بعض الدارسين يذهب إلى الزعم بأنّ هذه المسلسلات أفعل في النفوس من بعض الدين! ثمّ، لا أظنّ أنني أبالغ إذا ما قلت إنّ شكل الهاتف النقّال أبعد أثرًا في تشكيل الوعي من الرواية. عشرات الملايين من الشباب يمضون الساعات الطوال قابضين على هواتفهم النقّالة. إنّ الهاتف النقّال عند هؤلاء الشباب أفعل في تشكيل وعيهم من فنّ الرواية. من فنّ القصيدة. من المسرح. حين يقبض الواحد منهم على هاتفه فكأنّه يقبض على حلم... هذا وإنني لم آتِ بعد على ذكر استعماله، ولا على ما تتركه برامج الاستعمال من تأثير خطير على تشكيل الوعي الفردي والجماعي! إنّ لشكل الرصيف في المدينة تأثيرًا لا شكّ أخطر من الرواية والقصيدة! ولا ننسى أشكال السّيّارات والمباني والشوارع.. أريد أن أقول بهذا الكلام الخاطف إنّ في الكلام على دور الرواية مبالغةً من السهل جدًّا القفز فوقه وردّ الأمر إلى حجمه الفعلي.ما هو دور رشيد الضعيف كروائي، في مجتمع عربي متكلس؟ من الصعب جدًّا ”وزن” أثر ما يكتبه كاتب. بل من الصعب ”وزن” دور أنواع الأدب عامّةً. أستطيع فقط أن أقول في هذا الخصوص، إنّ فيما أكتب مساءلةً للمبادئ الأخلاقيّة السائدة التي يتأسّس عليها سلوكنا الفردي والجماعي، والتي تتأسس عليها السياسة. أسائل الأمومة في كتابتي وأسائل الأبوّة والأخوّة والحبّ والإخلاص والوطنية والشهادة والبراءة والجهل والمعرفة والإلحاد والإيمان.. أحاول أن أعيد النظر بالمسلّمات التي تحدِّد مفهومنا للعالم. لكن من الصعب جدًّا أن نعرف كيف يتحوّل هذا العالم، وما الذي يحوّله، وما إذا كان للفرد، مهما يكن عبقريًّا، دور في ذلك، وما وزن هذا الدور إن وُجِد.هل خرجت روايتك الجديدة ”ألواح” عن الموضوعات التي عوّدتنا عليها؟ إن ”ألواح” هي بين السيرة والرواية، أو بين الرواية والسيرة، أو سيرة في زي رواية أو رواية في زي سيرة.. وهذا ما أحب إتقانه، لكنني في هذه الرواية أذهب بعيدًا في ”كشف” مسلّمات أساسيّة تحكم حياتنا، كالأبوّة والأمومة والبراءة والحبّ والاستئناس بالمعرفة.. بل إنني ”أفضح” هذه المسلّمات، وكأنني أدعو إلى إعادة النظر فيها. براءة الأم المؤذية، الأب غير الجدير، التدرّب على القبول بخيانة الشريك. إنّ في هذه الرواية كلامًا عن مشاعر مجرّد الشعور بها مدعاة للخجل، فما قولك بالبوح بها!         

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات