+ -

في مغارة بجبل لبنان، تشعر كأنك داخل مدينة متحجرة في جوف الأرض، وكأن أهلها وحيواناتها وحتى نباتاتها وأشجارها سخطوا في غابر الأزمان، وتحولوا إلى أحجار كلسية صماء.. مغارة ضخمة يصل عمرها لملايين السنوات، وطولها يبلغ بضع كيلومترات، بعلو يصل أقصاه إلى 26 مترا، ونهر صغير يشقها من الأسفل تجري فيه القوارب الصغيرة بعمق يصل أحيانا إلى 30 مترا،  يخيل إليك وأنت تشق طريقك في ذلك النهر الطويل عبر قارب صغير، وسط الصخور الملساء وتلك الأشكال الحجرية العجيبة، بأنك تعيش إحدى مغامرات أسطورة السندباد البحري. زيارتنا لمغارة “جعيتا” في بلدية كسروان بمحافظة جبل لبنان كانت صدفة، ففي طريق عودتنا من منزل الرئيس اللبناني الأخير ميشال سليمان في منطقة عمشيت بقضاء جبيل بمحافظة جبل لبنان، أردنا التوجه رفقة السائق “علي” إلى منزل رئيس الوزراء “تمام سلام” لتهنئته بمناسبة العيد الوطني للبنان، وإجراء حوار معه إن أمكن، لكن السائق أخبرني أن رئيس الحكومة يستقبل ضيوفه إلى غاية منتصف النهار، قبل أن يتوجه إلى السراي، وليس أمامنا الكثير من الوقت، خاصة أن المسافة بين عمشيت ووسط بيروت قد تصل إلى 60 كيلومترا. ولأجل ما أشاد السائق اللبناني بالجمال الطبيعي لمغارة “جعيتا” وقمة “حريصا” وقال “إنهما فوق الوصف”، وأنهما قريبتان منا، قررت زيارتهما، خاصة أن لقاء رئيس الوزراء اللبناني لم يكن مرتبا بشكل جيد، ويستحيل أن نصل إليه قبل توجهه إلى “القصر الحكومي”، لذلك طلبت من السائق مواصلة الطريق إلى منطقة “المعاملتين” القريبة من جونيه، ومن هناك صعدت إلى قمة حريصا عبر المصعد الهوائي. “حريصا” اللبنانية.. أخت “سانتا كروز” الوهرانيةقبل أن تركب المصعد، يتم توجيهك إلى غرفة لعرض الملابس التقليدية في لبنان، ويعرضون عليك التقاط صور باللباس التقليدي اللبناني الذي يشبه ملابس أبطال المسلسل السوري “باب الحارة”، في إطار الترويج للتراث السياحي اللبناني، خاصة أن حريصا تعتبر من الأماكن السياحية التي يشد لها الرحال، خاصة من المسيحيين المارونيين.الصعود إلى أعلى التلة الجبلية في حريصا التي تعني في اللغة الفينيقية “الطرف الحاد” يشبه إلى حد ما الصعود في مصعد “جبل الأولوداغ” (الجبل الكبير) في مدينة بورصة التركية، خاصة أنه طيلة الرحلة ترافقك مناظر طبيعية مبهرة، فأمامك غابات جبلية كثيفة مشعة بالاخضرار، ووراءك خليج جونيه المتلألئ زرقة، وعند وصولك إلى أعلى التلة الجبلية يمكنك أن تلتقط صورا جميلة للعاصمة بيروت وكأنك في أعلى قمة “سانتا كروز” وتنظر إلى مدينة وهران وكورنيشها الجميل من علٍ.وفي أعلى المصعد كذلك تجد المطاعم وساحات الترفيه، وعائلات لبنانية وسورية تستمتع مع أطفالها بجمال المنظر ونقاء الهواء، بعيدا عن صخب المدينة، كما تنتظرك مفاجأة غير متوقعة، فرحلة الصعود إلى أعلى لم تنته عند نهاية المصعد الهوائي، حيث تصعد “ترامواي صغير” من عربة واحدة في شكل حذاء لتصل إلى أقصى نقطة في التلة الجبلية لحريصا التي لا يتجاوز علوها 650 متر.أول ما يستقبلك في أقصى نقطة بهذه التلة تمثال كبيرة للسيدة مريم، وأسفل التمثال كنيسة صغيرة، وبالقرب منها كاتدرائية كبيرة من زجاج، وتراتيل مسيحية تصدر من مكبر الصوت، وأشجار الأرز المرسومة على العلم اللبناني منتشرة بكثرة في هذا المكان، وأعداد كبيرة من المسيحيين اللبنانيين والأوربيين وحتى الهنود يشعلون الشموع بالقرب من التمثال.وللحظة تكتشف أنك في مركز طائفة الموارنة، أكبر طائفة مسيحية في لبنان، وبالقرب منها سفارة الفاتيكان، وكنيسة أخرى تابعة للروم الملكيين الكاثوليك، وهي إحدى الطوائف المسيحية في لبنان الذي يعد 18 طائفة مسلمة ومسيحية وأقليات أخرى من اليهود والديانات الوثنية وحتى الملحدين.ومع ذلك تجتذب حريصا الكثير من السياح العرب والمسلمين نظرا لإطلالتها على البحر وعلى العاصمة بيروت وخليج جونيه، وعلى الغابة والجبل، كما أنها مهيأة بمرافق سياحية ومواصلات، وأعلى التلة منبسط ومفتوح الأرجاء وليس جبليا مدببا كما يظهر لك عند صعود الجبل من الجهة الأخرى عبر المصعد الهوائي، كما أنه يمكن للسياح الصعود عبر درج دائري إلى أعلى نقطة ممكنة في تمثال السيدة مريم، وهو ما يخلق زحاما في هذا المكان.مغارة “جعيتا”.. المدينة المتحجرة في جوف الأرضالمناظر الطبيعية الجميلة في جبل حريصا شجعتني لاستغلال ما تبقى لي من وقت لزيارة مغارة “جعيتا” واكتشاف ما لا يمكن وصفه حسب السائق اللبناني “علي”، خاصة أنها لا تبعد كثيرا عن جبل حريصا، وكنت أتصور أنها تشبه الكهوف العجيبة التي تقع في الجزائر بين ولايتي جيجل وبجاية.توغلنا في مناطق خارج مدينة كسروان التي تقطنها غالبية مسيحية، منقسمة بين حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والتيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون، وفي مناطق ريفية وصلنا إلى وادٍ يسمى جعيتا، وفي مكان منعزل عن السكان لا توجد به سوى محطة تصفية المياه، نزلنا في مكان فسيح يوجد به مركز لبيع التذاكر، وإلى جانبه مطعم ومحلات لبيع الهدايا التقليدية.التوجه إلى المغارة يتطلب ركوب مصعد هوائي صغير من 4 عربات تتحرك مع بعضها مثل القطار، ومنه ينقل السياح إلى القاعة الأولى من المغارة المشكلة من قاعتين وليس مغارتين، وكأنها بناية من طابقين يفصل بينهما أخدود ضيق.تحداني السائق أن أمكث أقل من ساعتين في المغارة نظرا لحجمها، إلا أنني كنت أتصور أن الأمر يتعلق بمجرد كهف في جوف الأرض به نوازل وصواعد حجرية، ولن يتطلب مني سوى أقل من ربع ساعة.أول ما يبهرك عند دخول المغارة هو حجمها الكبير، فالوصول إلى القاعة الكبرى يتطلب منك اجتياز دهليز بطول 120 متر، لتصل إلى قاعة فسيحة بعلو 16.5 متر، أشبه بالقصر الرخامي، وعبر ممرات ضيقة تصل إلى قاعة الفطر التي توجد بها أشكال غريبة أشبه بحبات الفطر العملاقة والذائبة كالشمع، وهي أعلى قاعة في هذه المغارة، حيث يصل علوها إلى 26 مترا، وتشاهد بها أشكال مختلفة، من الأحجار الكلسية التي تشبه بعض الخضروات، وأخرى مثل الرؤوس البشرية المتحجرة التي تستغيث كأنها تغرق في بحر أو في حمم بركانية، وكلما توغلت تشاهد أخدودا ضيقا وعميقا، وأسفل منه نهر صغير يجري لا يمكن الوصول إليه إلا عبر القاعة السفلى، وأشكال مختلفة من الورود الكبيرة المتحجرة، ومدرجات مائية متحجرة مثل البرك الصغيرة، أو نافورات القصور القديمة. والقاعة تم تهيئتها للسياح من خلال ممرات إسمنتية وإضاءة خافتة، وصور وخرائط توبوغرافية تظهر كيف تشكلت هذه المغارة عبر ملايين السنين، والذي نحت هذا الجمال نهر جعيتا أحد أفرع نهر الكلب الذي غارت مياهه في جوف الأرض، ونحتت هذه الأشكال الجميلة التي وصفها فوق طاقة الكلمات.وعندما تتجول في هذه المغارة تلاحظ كثرة الرطوبة وقطرات ماء تنزل من السطح وجدرانها ملساء، وحرارتها ثابتة طوال السنة، حيث لا تتجاوز 18 درجة في القاعة العليا و16 درجة في القاعة السفلى، حسب أحد المرشدين السياحيين.وتوغلنا في القاعة العليا للمغارة 750 متر فقط، في حين يصل طولها إلى 2.2 كيلومتر، إذ لم يتم تهيئة المسافة المتبقية للسياح.صياد عصافير أمريكي أول من اكتشف المغارةعدنا أدراجنا وخرجنا من نفس الباب الذي دخلنا منه، بعد أن استرجعنا آلات التصوير وهواتفنا النقالة، حيث يمنع التصوير في هذا المكان، وعبر قطار صغير بدون سكك حديدية نزلنا إلى مدخل القاعة السفلى، وكانت لا تقل جمالا عن القاعة العليا، لكنها أضيق وأطول، وما يميزها أنك لا تستطيع التوغل فيها إلا عبر قارب صغير على نهر جعيتا الذي يخترق المغارة ويصل عمقه ما بين متر إلى 30 مترا، وفي شهر فيفري من كل عام تغلق المغارة السفلى في وجه الزائرين، لأن منسوب المياه يرتفع مترا إضافيا، فيغرق ذلك المرسى الصغير.ركبنا القوارب التي كان يقودها أحد المرشدين السياحيين الذي أخبرني أن رجلا أمريكيا كان يصيد الطيور في هذا المكان، فأطلق النار (في مدخل المغارة) فسمع صدى لصوت البارود، فعلم أن لهذا الكهف امتدادا، وكان هذا الأمريكي يدعى وليام تومسون، واكتشف المغارة في 1836، أما المغارة العليا فتم اكتشافها في 1958 خلال أشغال شق طريق، ربما بنفس الطريقة التي تم بها اكتشاف الكهوف العجيبة في الجزائر.وخلال تجولنا عبر القارب تشعر كأنك في مدينة البندقية الإيطالية في غابر الأزمان، حيث تجد أشكالا مختلفة مثل برج بيزا المائل في إيطاليا وشخصبن واقفبن، ومسجدا تعلوه مئذنة، وجملين، وقصرا صينيا، وأشكال نباتات مثل الصبار. وأخبرني المرشد السياحي أن سنتيما واحدا من هذه الترسبات الكلسية يستغرق 100 سنة لكي يتشكل، وأضاف أن طول هذا النهر 7 كيلومتر، في حين لم يسمح لنا بالتوغل سوى 400 متر فقط، حيث توجد مناطق ضيقة تتطلب منك خفض رأسك حتى لا يصطدم بالسطح. عندما تخرج من مغارة جعيتا وتركب سيارة حديثة تشعر وكأنك انتقلت بين زمنين، أو عشت حلما جميلا واستفقت منه، إنه أشبه بالأسطورة التي تحكيها لك الطبيعة بلا كلمات.الأمير عبد القادر مر من مسجد “رفيق الحريري”وصلنا إلى بيروت وكان مسجد “محمد الأمين” نسبة إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي ارتبط باسم المرحوم رفيق الحريري أول نقطة توقفنا عندها، ويعد هذا المسجد تحفة معمارية بحق، سواء من حيث هندسته المعمارية أو حجمه الكبير، ومن خلال موقعه في قلب بيروت بالقرب من ميدان الشهداء وساحة رياض الصلح، كما أن للمسجد رمزيته الخاصة لدى المسلمين (السنة) خاصة من تيار المستقبل لارتباطه باسم الشهيد رفيق الحريري. ويروي لي السائق علي كيف جاء الشيخ محمد رشيد قباني مفتي الجمهورية وطلب من رفيق الحريري أن يتبرع لهم بمبلغ لإتمام هذا المسجد، لكن رفيق الحريري الذي كان رئيسا للوزراء وأحد كبار رجال الأعمال في لبنان قدم هبة سخية أكبر مما كان يتوقعه المشرفون على بناء هذا المسجد التحفة.عندما تبحث عن قصة بناء هذا المسجد تتفاجأ بأنها تعود إلى القرن 19، عندما وهب السلطان العثماني عبد المجيد قطعة أرض لبناء زاوية لأحد المتصوفين سنة 1853، وهذه الزاوية هي التي نزل بها الأمير عبد القادر عند مروره ببيروت في طريقه إلى منفاه الاختياري بسوريا، حسب الدكتور حسان حلاق نائب رئيس هيئة أمناء مسجد محمد الأمين.وفي 1945، تعاهد المصلون الذين كان يؤمهم الشيخ أديب السيوفي على التبرع لإنجاز مسجد كبير، كما تبرع عدة زعماء عرب ومسلمين لأجل إتمام إنجاز هذا الصرح الإسلامي، من بينهم الملك فيصل عاهل السعودية وجمال عبد الناصر الرئيس المصري، كما تبرعت ماليزيا بمبلغ هام، لكن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في 1975 عطل إنجاز هذا المشروع إلى غاية نهاية الحرب في 1991، وفي عام 2000 تعهد رفيق الحريري لمفتي لبنان ببناء مسجد محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) على نفقته.ووُضع حجر الأساس في 2002، غير أن رفيق الحريري استشهد في تفجير سيارة مفخخة في 14 فيفري 2005 قبل أن يتم الانتهاء من تشييد المسجد، لكن نجله سعد الحريري واصل من بعده إتمام بناء المسجد، ودفن رفيق الحريري بالقرب من المسجد الذي كان له الفضل الأكبر في بنائه على أنقاض الزاوية الصوفية، وذكرني ذلك بقصة الأمير زايد الذي شيد مسجدا أشبه بقصر تاج محل في الهند، ودفن بالقرب من المسجد الذي سمي على اسمه في أبوظبي.من مطالب بيئية إلى دعوات للإطاحة بالنظام الطائفيعلى الرغم من مرور أشهر على الاحتجاجات الشهيرة للمطالبة بتنظيف العاصمة بيروت والتخلص من النفايات، فإنني وجدت بالصدفة أن مجموعات شبانية وطلابية ونسوية، غالبيتهم من الشيوعيين والعلمانيين، متجمعة بالقرب من خيمة صغيرة في ساحة الشهداء قبالة مسجد محمد الأمين، وبالقرب منهم كومة كبيرة من قارورات المياه الفارغة، لكن مطالبهم كانت مختلفة رغم قلة أعدادهم، وينقسمون في العموم إلى عدة مجموعات لديها مطالب مختلفة.أحد الشباب الذين التقيتهم سألته إن كانت الحكومة استجابت لمطالبهم بشأن تنظيف مدينة بيروت، فرد بأن الحكومة لا يمكنها فعل شيء لأن قرارها ليس بيدها، بل كل وزير يخضع لزعيم طائفته الذي يتبع بدوره قرارات إحدى الدول الإقليمية مثل السعودية أو إيران (أو فرنسا).وأشار لي هذا الشاب إلى أن بعض هذه المجموعات المطلبية تشكلت رفضا لإنشاء مشاريع على مناطق طبيعية، لكنه أشار إلى أن من بين مطالبهم: رفض النظام الطائفي في لبنان الذي على أساسه يتم انتخاب رئيس الجمهورية من المسيحيين ورئيس الوزراء من السنة ورئيس البرلمان من الشيعة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات