+ -

أخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتَى النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أعرابيًا فأكرمه، فقال له: “ائتنا”، فأتاه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “سَلْ حاجتك”، فقال: ناقة أركبها، وأعنزًا يحلبها أهلي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “عجزتُم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟ قال: “إنّ موسى لمّا سار ببني إسرائيل من مصر ضلُّوا الطّريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إنّ يوسف لمّا حضره الموت أخذ علينا موثقًا من الله أن لا نخرج من مصر حتّى ننقل عظامه معنا، قال: فمَن يعلم موضع قبره، قال: عجوز من بني إسرائيل، فبَعث إليها فأتته، فقال: دلّيني على قبر يوسف، قالت: حتّى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنّة، فكره أن يُعطيها ذلك، فأوْحَى الله إليه أن أعْطِها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة، فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوا، قالت: احتفروا واستخرجوا عظام يوسف، فلمّا أقلّوها إلى الأرض إذا الطّريق مثل ضوء النّهار”.فانظر رحمك الله إلى هذه العجوز وهي لا ترضى إلاّ بالمَراتب العالية الشّريفة، في حين أنّنا نرى رجالاً لهم شوارب يقف عليها الغراب، ولكن نفوسهم دنيئة هابطة، يرضون بالدون والقليل، في شتّى مناحي حياتهم، هذه هي همّة هذه العجوز، لم ترض إلاّ بالجنّة، فهنيئًا لها توفيق الله لها.يقول ابن القيم رحمه الله: النّفوس الشّريفة لا ترضى من الأشياء إلاّ بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة، والنّفوس الدّنيئة تحوم حول الدّناءات وتقع عليها كما يقع الذُّباب على الأقذار. يقول الحقّ سبحانه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةِ ذكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}، فالمراد بالأيدي: القوّة في تنفيذ الحقّ، والمراد بالأبصار: البصائر في الدِّين، فوصفهم الباري سبحانه بكمال إدراك الحقّ وكمال تنفيذه، فلهم قوّة وهِمّة، وعزيمة عالية، مع بصيرة في الدّين، فكان هؤلاء هم أشرف الخلق، وأكرمهم على الله تعالى، وهذا الصنف أصحاب الهمّة العالية، والعزيمة الرّاشدة، والبصيرة النّافذة هم مَن يَصلُح للإمامة في الدّين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.إنّ النّفوس العليّة ذوات الهمم العالية لا تقنع بغير معالي الأمور، وإنّ من أعظم معالي الأمور الّتي تُطلب الجنّة، فهذا عمر بن عبد العزيز شابٌّ من شباب بني أميّة، الخليفة الرّاشد الخامس، كان رضي الله عنه ذا نفس تواقة راغبة في معالي الأمور، يقول رجاء بن حيوة: كنتُ مع عمر بن عبد العزيز لمّا كان واليًا على المدينة، فأرسلني لأشتري له ثوبًا، فاشتريتُه له بخمسمائة درهم، فلمّا نظر فيه قال: هو جيّد، لولا أنّه رخيص الثمن، بخمسمائة درهم ويقول: رخيص الثمن! يقول رجاء: فلمّا صار خليفة للمسلمين، بعثني لأشتري له ثوبًا، فاشتريته له بخمسة دراهم، فلمّا نظر فيه قال: هو جيّد، لولا أنّه غالي الثمن! سبحان الله بخمسة دراهم ويقول: غالي الثمن! فما الّذي غيّره يا ترى؟ قال رجاء: فلمّا سمعتُ كلامه بكيتُ؛ فقال لي: ما يُبكيك يا رجاء؟ قلتُ: تذكّرتُ ثوبك قبل سنوات وما قلتَ عنه، فكشف عمر لرجاء سرّ هذا الموقف وقال: يا رجاء إنّ لي نفسًا توّاقة، وما حققّتُ شيئًا إلاّ تاقَت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزّواج من ابنة عمّي فاطمة بنت عبد الملك فتزوّجتها، ثمّ تاقَت نفسي إلى الإمارة فولّيتُها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنِلْتُها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنّة، فأرجو أن أكون من أهلها. هذه هي النّفوس التوّاقة، صاحبة الهمم العالية.نحن نريد أصحاب الهمم العالية، والنّفوس التوّاقة للخير، التوّاقة في دعائها، في عملها، في علمها، في بذلها، وفي عطائها، فإنّ الله يحبّ معالي الأمور ويكره سفاسفها، فطباع النّفوس الحُرّة أن لا تسأل إلاّ أعلى المراتب في الدّين والدّنيا، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.واعلم أيُّها الفاضل أنّ الجنّة منازل، وأعلى منزلة فيها الفردوس، ورد في الصّحيح أنّ أمّ الرّبيع بنت البراء، وهي أمّ حارثة بن سُرَاقة، أتَت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا نبيّ الله، ألاَ تحدّثني عن حارثة؟ وكان قُتِل يوم بدر أصابه سهم غَرِبٌ (أي: طائش، لا يُعرف من أين أتى)، فإن كان في الجنّة صَبِرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء، فقال: “يا أمّ حارثة، إنّها جنان في الجنّة، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى”. وفي الصّحيح: “مَن آمن بالله وبرسوله، وأقام الصّلاة، وصام رمضان، كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنّة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه الّتي وُلد فيها”، فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشّر النّاس؟ قال: “إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدّرجتين كما بين السّماء والأرض، فإذا سألتُم الله فاسألوه الفِردوس، فإنّه أوسط الجنّة وأعلى الجنّة، أراه فوقه عرش الرّحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنّة”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات