ما أسهل الاقتداء بهدي ظاهر، يجمّل المنظر ولا يكلّف كثيرًا! وما أسهل ادّعاء الاقتداء والتّظاهر به! ما أسهل أن يغيّر المرء مظهره وبعض سلوكاته الصّغيرة! لكن ما أصعب الاقتداء بخُلق طاهر، يقاوم الهوى ويدافع الشّهوات! ما أصعب التّحقّق بكمالات الاقتداء والارتفاع إلى آفاقه السّامقة! ما أصعب أنّ يُغيّر المرء باطنه ويُطهّر قلبه ويُزكّيّ نفسه!والفرق بين الحالين هو الفرق بين واقع اقتدائنا بسيّد الخَلق وإمام المتديّنين عليه الصّلاة والسّلام، وبين متطلّبات ومستلزمات الاقتداء الحقّ به عليه السّلام! نعم، لقد سهل على كثير من النّاس الاقتداء -أو التّظاهر بالاقتداء!- بما يسمّيه العلماء سنن الهدي الظاهر أو سنن العادة من كيفية أكل وشرب ولبس ومجاملات ذوقية ومظاهر عامة، ممّا يصنّف في الغالب في باب المستحبّات والفضائل والتحسينيات والمكمّلات، مع الغفلة -أو ترك الاقتداء- بالأخلاق المحمّدية العظيمة التي غيّرت نفوس النّاس للأحسن، وعَلَت بأرواحهم للأسمى، وطهرت قلوبهم، وزكّت نفوسهم، وقوّمت أخلاقهم، وهذّبَت سلوكهم، وبعثت هِمَمَهم، وأصلحت حياتهم.إنّ الله عزّ شأنه نصّ على واجب الاقتداء بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرآنًا يُتلى إلى يوم الدّين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه بين المسلمين، فما من مسلم حيّ الإسلام إلاّ وهو يعلم ويعلن أنّ قدوته وأسوته هو الحبيب المصطفى عليه أزكى صلاة وسلام، ولكن الّذي يختلف فيه حال المسلمين حيال ذلك، هو فهمهم للاقتداء الحقّ، هو فهمهم لحدود هذا الاقتداء ومعالمه. إذ أحسب أنّ قليلين منّا مَن طرحوا على أنفسهم هذا السّؤال: هل اقتدائي صحيح؟ هل أنا أقتدي في الأمور الأساسية التي شرع فيها هذا الاقتداء أم أنا على هامش الاقتداء؟ هل أنا على هدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مَخْبرًا ومَظهرًا أم هي مظاهر لا تغني من الحقّ شيئًا؟ هل اقتدائي على هدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم حقًّا أقدّم ما قدّم وأؤخّر ما أخّر، وأعظّم ما عظّم وأصغر ما صغّر، وأراعي مراتب الأعمال كما أقرّها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أم أنا أطفّف! فيزيد اهتمامي ببعض الصّغائر على بعض العظائم، ويختلّ ميزاني فأخالف الهديّ النّبويّ من حيث أريد الموافقة؟! وكم من مريد للخير لا يدركه!وبعد، فلا شكّ أنّه مادام وضع الأمّة في ضعف وهوان فإنّ علاقتها بدينها واهنة، وإنّ أنماط التّديّن الشّائعة فيها قاصرة، وإنّ طريقة اقتداء أفرادها بنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فيها خلل وقصور! ومن هذا القصور ما عبّر عنه الإمام العلامة الشّيخ البشير الإبراهيميّ رحمه الله رحمة واسعة حين قال: “فعلنا بمولد محمّد صلّى الله عليه وسلّم ما فعلناه بسيرته فاقتصرنا في كليهما على أضعف جانبيه فنحن نتدارس سيرته الّتي هي التّفسير العملي للإسلام فلا ندرس إلاّ جانبها البشريّ من كيفية أكله ولباسه ونومه، لا جانبها الـمَلَكيّ من صبره وجهاده وتربيته لأُمّته، وبناء الدّولة الإسلاميّة”.وهذا واقعنا يؤكّد هذا الّذي يقوله الشيخ، ونظرة عجلى إلى اهتمامات المتديّنين واستماع خاطف للخطابات الدّينية، نجدها تهتم بهذا الجانب الأخفّ من سيرته صلّى الله عليه وسلّم وسنّته وهديه استرواحًا لما جُبِلت عليه النّفوس من حبّها السّهل الأخف! بل نجد مَن يقضي يومه يجاهد في سبيل مستحبّات صغيرة ممّا يقول فيه أئمة الهدى من علمائنا: الأمر فيه واسع! ولكنّنا لا نسمع الكثير عن أهمّية أن يساهم المسلمون في تطوير العلم الإنساني، عن أهمية رفع مستوى المقروئية عندنا إذ أوّل الآيات نزولاً كما نعلم هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكرم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.لا نسمع كثيرًا عن رفع مستوى أخلاقنا إلى مقام الشّهادة على النّاس، ولا عن مسؤوليتنا في هداية النّاس إلى الدّين الحقّ بإصلاح حالنا حتّى لا تكون حاجزًا أمام اهتداء النّاس كما هي عليه الآن! لا نسمع كثيرًا عن ضرورة العمل لإرجاع الأمّة إلى مكانتها الطّبيعية: خير أمّة أخرجت للنّاس في كلّ جوانب الحياة. لا نسمع كثيرًا عن أهميّة تشريف ديننا بتكنولوجيتنا الرّاقية واقتصادنا القويّ ودولنا العادلة ومجتمعاتنا المزدهرة وحضارتنا الهادية! لا نسمع كثيرًا عن وصايا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحضاريّة في الحرص على الوقت، والحرص على الإتقان، والحرص على الإحسان، والحرص على الإنجاز ولو قامت السّاعة! “إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها”، والحرص على نفع النّاس، والحرص على هداية النّاس، والحرص على عمارة الدّنيا، والحرص على القوّة في كامل مظاهرها: القوّة الإيمانية والقوّة العلمية والقوّة الاقتصادية والقوّة العسكرية.. إلخ. والقائمة طويلة ممّا نفتقده في التّوجيه الدّيني مع أهميّته وقيمته، لكنّ تخلّفنا وسوء فهمنا لديننا وانحراف تديّن كثيرين منّا خلخل موازيننا بل قلب الأوضاع في بعض الأحيان رأسًا على عقب!ولا سبيل لنا إلّا بإرجاع الأمور إلى نصابها وتقويم اقتدائنا بنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وتصويب مفاهيمه، وإصلاح خَلَله، وتجديد معالمه.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات