"التفاهة" تنزل بالخطاب السياسي إلى الحضيض

+ -

بات التنابز بالعبارات المقللة من شأن الآخر سمة بارزة في خطاب السياسيين بالجزائر، ووسيلة لتسجيل حضورهم الدائم في وسائل الإعلام، دون الاكتراث لمضمون هذا الخطاب الذي يؤطر مرحلة فارقة في تاريخ الجزائر الحديثة، تفرض عليه أن يكون مرتقيا إلى المستوى الذي يجعله قادرا على إثراء النقاش بدل تعويمه في التفاهات. لم يعد الأسلوب الساخر في التعاطي مع الأحداث السياسية وسيلة للبرامج الكوميدية في القنوات فحسب، بل امتد ليؤثث خطاب جل السياسيين على أعلى المستويات حضورا في المشهد الإعلامي، وأصبح سلاحا فتاكا يستعمل في المعركة بين مختلف الفاعلين السياسيين، وفقا لتغيرات الخارطة السياسية التي جعلت من حلفاء الأمس خصوما ومن الأعداء حلفاء.واللافت أن عودة عمار سعداني، الأمين العام لجبهة التحرير الوطني، كأحد صناع الحدث السياسي والإعلامي، ألهبت الساحة بالكثير من العبارات والألفاظ العامية، التي يحاول من خلالها نزع المصداقية عن خصومه السياسيين، وتميز سجاله الأخير مع الأمينة العامة لحزب العمال، لويزة حنون، بتوظيف عبارات حادة تكاد تصل إلى مستوى السباب والشتم.ويعتمد سعداني، في كل مرة يهاجم فيها خصومه، على توظيف ما يعتقد أنها نقاط ضعف تحرجهم أمام الشعب، فقد استعمل ورقة الدين ضد لويزة حنون المعروفة بتوجهاتها المحسوبة على أقصى اليسار، وتحداها إن نطقت بالبسملة أن يستقيل بعد أن أزعجه حراكها المطالب بمقابلة رئيس الجمهورية لإعلامه بما تعتقد أنها قرارات صادرة باسمه ولا يعلمها. واستصغر، في ذات السياق، البروفيسور عبد الحميد أبركان، رغم قامته العلمية الرفيعة، لأنه فقط من الموقعين على رسالة مجموعة الـ19، قائلا: “واحد رئيس بلدية يريد مقابلة الرئيس!”. واستطاع سعداني بهذا الرد أن يحرف النقاش الذي تطالب به زعيمة العمال ومجموعة الـ19 عن هدفه، وهو التصدي لقانون المالية 2016 ووقف مصادرة قرارات رئيس الجمهورية من محيطه.وبما أن ورقة الدين لا يمكن توظيفها ضد حزب محسوب على التيار الإسلامي، اعتمد سعداني في نقده اللاذع لحركة مجتمع السلم، على ما يراه ازدواجية في مواقف هذه الحركة التي شاركت في الحكومة لسنوات طويلة، وبالتالي لا يمكنها أن تظهر اليوم بمظهر المعارضة. وصاغ سعداني هذه الفكرة بجملة عامية قصيرة قال فيها موجها كلامه لحمس: “مازالو رجليكم سخونين في السلطة”. أما جيلالي سفيان، رئيس حزب جيل جديد، وشريك حمس في المعارضة المنادية بالانتقال الديمقراطي، فيصفه سعداني بأنه “مجرد كاشي”، للتقليل من شأنه وإظهاره على أنه حزب ليست له قواعد، وهكذا يتجنب سعداني تماما الخوض في طرح المعارضة أو تقديم رؤية مناقضة لرؤيتها، إذ يكتفي فقط بهذه الردود الحادة والتبسيطية لينتهي النقاش.وعلى الطرف النقيض، يرد المستهدفون من هجوم سعداني بهجوم مضاد لا يقل ضراوة، يحاول في مضمونه تصوير الأمين العام للأفالان على أنه “عديم المستوى”. وتقول حنون في ردها عليه لما وصف حزبها بأنه فئوي يهتم بالعمال فقط، “اذهب وتعلم يا جاهل”، وردت على تعليقه على رسالة الجنرال توفيق عندما وضع لها عنوانا لأغنية عبد الحليم حافظ “إني أغرق إني أغرق”، بالمثل الشعبي الساخر “كي يغيبو الطيور تبدا الهامة تدور”. أما عبد الرزاق مقري فاختار أسلوبا آخر في الرد على سعداني، شبه فيه التنافس في الانتخابات بالعراك بين الشباب: “أرواح اخرجهانا الراص الراص”. وبين المعارضة نفسها، كانت تندلع، من حين لآخر، حرب لفظية كان أشهرها ما حصل بين لويزة حنون وعبد الرزاق مقري، عندما كانت الأولى تتهم الإسلاميين بالتعامل مع قطر، ورد عليها الثاني بمقال طويل وصفها فيه بعبارات حادة.ورغم أن أحمد أويحيى، الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، يعرف عنه رفضه للشعبوية، إلا أنه أطلق عبارة “كل واحد يشد سابعو”، متوعدا الصحافة والمعارضة، في إطار خطاب التخويف الذي تتحدث به الموالاة. وعلى نفس المنوال، قال وزير الاتصال مهاجما المراسلين الجزائريين في وسائل الإعلام الأجنبية: “لازم تدخلو الصف”، وهي عبارة يستغرب أن تصدر من وزير يفترض فيه السهر على حرية التعبير، مع العلم أن مسلسل النيل من الصحافة بهذه العبارات، كان الرئيس بوتفليقة أول من دشنه حينما أطلق عليها وصف “طيابات الحمام”.وحول هذا الموضوع، قال المحلل السياسي رشيد ڤريم، لـ”الخبر”، إن “انحدار مستوى الخطاب السياسي في الجزائر راجع إلى الغياب شبه التام للنقاش بين السلطة والمعارضة منذ فترة طويلة تصل إلى 15 سنة”.ويوضح ڤريم أن هذه الحالة من غياب النقاش حولت الخطاب السياسي إلى “مونولوغ”، يتكلم فيه كل طرف دون الاستماع إلى الآخر، ويرد فيه كل سياسي على خصمه عبر وسائل الإعلام “التي يتخذ الكلام عبرها طابع الرد السريع المبني على محاولة إفحام الآخر وليس إقناعه كما يتم في الحوار”.ويضيف ڤريم أن اشتداد هذا النوع من الخطاب، في هذه الفترة بالذات، يرجع إلى “رغبة كل طرف في التموقع تحسبا لاستحقاقات قادمة، كل يراها بمنظاره بالنسبة لمن هم في الموالاة أو أولئك الموجودون في المعارضة”. ويتابع المحلل السياسي أن “الجزائر مقبلة على مرحلة خلافة منصب الرئيس بالنظر إلى جملة من الظروف تحيط بالعهدة الحالية للرئيس بوتفليقة، لذلك تهيج الساحة السياسية بكل أنواع الخطابات التي تبحث عن التأثير في هذا الموعد الهام”.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات