"العنف الديني ظهر عندنا 30 سنة بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم"

+ -

يعتقد لخضر رابحي، مؤلف كتاب ”من الخوارج إلى داعش”، الصادر عن منشورات ”عالم الأفكار”، أنّ الغرب وأطرافا من الأنظمة العربية والإسلامية توظّف ظاهرة العنف الدّيني، داعيا إلى تجنّب الخلط بين الأسباب الذاتية لميلاد حركات العنف كداعش مثلاً، ومسألة توظيفها والاستفادة منها. وأضاف الأستاذ رابحي في حوار مع ”الخبر”، أن استقطاب الأوروبيين من قبل ”داعش” وقع تحت تأثيرات ثقافة ”الخطيئة الأصلية” في الفكر المسيحي والرغبة في تطهير الذات عن طريق التضحية لله.  ما قراءتكم لتأسيس ”داعش”، وهل لذلك روابط  بالتاريخ الإسلامي؟ حتّى نفهم أكثر ”داعش” ونستوعب منهج العنف باسم الله، علينا أن نعود إلى التاريخ، فهو المرآة التي نكتشف من خلالها بعض اختلالاتنا الفكرية وعللنا النفسية، والتاريخ كما يقول علماء الاجتماع، هو المخبر الذي تفحص فيه الأمة تاريخها المرضي. العنف الدّيني ظهر عندنا 30 سنة بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والأغرب أنّه ظهرت بداياته التأسيسية في فترة ”الحكم الراشد”، أي في زمن الخلفاء الراشدين، واستطاع في فترة قصيرة أن يستقطب إلى صفوفه 30 ألفًا من المقاتلين، الذين يوصفون بالقرّاء لكثرة حفظهم وتلاوتهم للقرآن، ونسبيًا 30 ألفًا في ذلك الزمن تساوي اليوم ربّما 3 ملايين، من حيث قدرة الاستقطاب، وأغلب المنخرطين في العنف في تلك الفترة التأسيسية، هم من خارج الحواضر جاؤوا من مناطق الفقر والعوز، وعُرفوا بالبسالة والإقدام وعدم الخوف، إلى الدرجة التي وصفهم فيها الشيخ أبو زهرة رحمه الله بالتهور، فكانوا يؤمنون بالعمليات الانتحارية آنذاك، فيقتحم أحدهم الصفوف وحده وهو يعلم أنّه لن ينجو، ويستعملون العنف الوحشي، فقد ذبحوا ابن الصّحابي خبّاب بن الأرت ذبح النعاج، ثمّ بقروا بطن زوجته وهي حيّة، وأخرجوا جنينها ورموه، ثمّ ذهبوا إلى قيام اللّيل وتلاوة القرآن. كانت الروم موجودة كدولة قوية ومحورية، وكذلك دولة الفرس، وكان يهمّهم إضعاف المسلمين، لكن كلّ شواهد التاريخ دون استثناء تؤكّد أن لا علاقة لهم بهذه الاختلالات، فهي علل نبتت بأسباب داخلية، صحيح لاحقًا حاولوا الاستفادة منها وتوظيفها، لكن بقيت علل ”ماركة” داخلية بامتياز. فأردتُ بهذا الموجز أن أؤكد أنّ هذه الظواهر تظهر من ذاتنا المعلولة، ومن فكرنا المخبول، ولا يهمّ التسمية، البارحة لها اسم، واليوم اسم وغدًا اسم آخر، يجب التركيز على الظاهرة وفهمها.ما هو سر استقطابها لمقاتليها وخاصة من قبل الأوروبيين؟ أمّا عن استقطاب الأوروبيين، فلا أستبعد تأثيرات ثقافة ”الخطيئة الأصلية” في الفكر المسيحي، والرغبة في تطهير الذات عن طريق التضحية لله، فهذا الفكر له جذوره المسيحية، وله دعم من بعض مصادر فكرنا. فأصحابه يعتقدون بوجوب التضحية لله بالدم، للتكفير عما صدر منهم من الذنوب والخطايا، وقد كانت الكنيسة قديمًا في الحروب الدّينية توظّف هذه الثقافة. و«داعش” امتداد لتنظيم الزرقاوي الأردني الذي بايع القاعدة، وامتداد لتفكير الجهادية السلفية، وامتداد لجماعات الجهاد الأفغاني، وجدت بيئة العراق بما حدث فيها من الظلم الشنيع من أمريكا ومن الشيعة ضدّ أهل السنّة البيئة المناسبة لتفريخ هذا الفكر، الذي يتأسّس من أصول مرجعية في تراثنا، ويتغذّى من ظروف القهر ويكبر من أوكسجين الظّلم والمعاناة.ما هو موقفكم من الطّروحات العقائدية الّتي استند عليها التنظيم؟ داعش مثل سائر التنظيمات الجهادية تنطلق من عقيدة التكفير، وتعتبر المجتمعات والحكومات كافرة كفرًا أكبر، ما دامت لا تحكم بالشريعة، كما جاءت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتعتبر الحكومات مرتدّة ردّة واضحة، وهي أولى بالقتال والقتل من اليهود والنصارى والبوذيين، كما تعتبر اللجوء إلى الديمقراطية صنمًا عصريًا يشبه ما فعله التتار من أخذهم بنظام ”الياسق”، وكفّرهم ابن تيمية لذلك، والياسق خليط من القوانين الإسلامية وغير الإسلامية، وأن داعش لا تؤمن بالوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات، فهي شرك أكبر ولذلك هي تكفّر مرسي والغنوشي وأردوغان، ولا ترى إلاّ الجهاد طريقًا إلى إقامة الدولة، بالإضافة إلى أنّها تعتبر بلاد المسلمين جميعًا محتلّة من الكفار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وذلك لتبرير القتال ضدّ الحكومات، إلى جانب ذلك توظيفها لحديث ”نُصِرتُ بالرُّعب” لصناعة نظرية الرعب التي تعتقد أنّها من أسباب الانتصار على الأعداء، ولذلك فهي تمعن في مشاهد القتل والذّبح أخذًا بهذه النّظرية.وهذه الطروحات الإيديولوجية فاسدة بالأصل، كونها تنطلق من منطلقات خاطئة من البداية، فالتغيير الداخلي محكوم بالنص وبالعقل والمصلحة، وشواهد التاريخ وحقائق الواقع، فلم يرد في النصوص المرجعية إطلاقًا أيّ تأسيس لهذا الفكر، إلاّ من قبيل التأويل الفاسد وليّ أعناق الأدلة، فمنظومة النصوص كلّها تدعو إلى الصّبر الدّاخليّ، وتنهى عن القتال ”ليس منّا مَن حمل السلاح”، ثمّ التكفير بالجملة للمجتمعات والحكومات لم تفعله إلاّ الفرق الضّالة، مثل الخوارج ولم تفعله مرجعية السّلف الفقهية، وقد دلّت حوادث التّاريخ على فساد نظرية التغيير بالقوّة، إذا تعلّق الأمر بالداخل، وأنا أطالع ”شَذَرَات الذّهب” رصدتُ قرابة 700 خروج مسلّح فاشل، زاد من آلام الأمّة وأوجاعها، بل حقائق التاريخ القديمة والحديثة، تؤكّد كلّما كان الاقتتال الدّاخلي تعرّضت الأوطان إلى التقسيم أو الاحتلال، وعليه فأصول هؤلاء فاسدة، فهي مفصولة عن منظومتها الفكرية الشّاملة، ومعزولة عن سياقات التّطبيق وقراءات رغبوية لا ننكر أنّها موجودة في التراث.هل تعتقد أنّ سرعة انتشاره وانتصاراته وراءها جهات تدعّمه؟ لا أحد ينكر أنّ الغرب وأطرافًا من الأنظمة العربية والإسلامية توظّف ظاهرة العنف الدّيني، لكن لا يجب الخلط بين الأسباب الذاتية لميلاد حركات العنف كداعش مثلاً، ومسألة توظيفها والاستفادة منها، فالأمم اليوم تدرس كلّ الظواهر الاجتماعية وتترصّدها، خصوصًا منها الّتي تشكّل خطرًا على أمنها، ولكن لا يعني ذلك بتاتًا أنّها هي من أنشأت هذه الظّواهر، فالإنجليز مثلاً استفاد من الحركة الوهابية في ضرب الدولة العثمانية، فهل نقول أنّ الإنجليز وراء ظهور الفكر الوهابي؟ لا، لا يصلح هذا الطّرح، والجماعات المسلّحة في أفغانستان استفادت من الدّعم الأمريكي لمحاربة الاتحاد السوفياتي، ولا يعني ذلك أبدًا أنّ أمريكا هي الّتي أنشأت القاعدة، فهذه الظواهر تنشأ بأسباب ذاتية موغلة في العمق، ولكن تتفاعل مع الظروف الخارجية وتستفيد منها فقط.وما هي أسباب انتشارها السريع؟ في تقديري أسباب الانتشار السريع لداعش، يعود إلى أنّ التدقيق في داعش كامتداد، بدأت العمل بعد سقوط العراق في 2003، واستمرت في النمو والزيادة، واستقطبت مقاتلي العشائر بسبب سياسات المالكي المذهبية المقيتة، وكذلك الجيش العراقي الحالي جيش هشّ قائم على المذهبية والمصالح، ولا يملك مؤهلات الجيوش النظامية العريقة وباعترافهم، لولا الدعم الأمريكي الواسع والدعم الإيراني عسكريًا وماليًا يسقط في ربع ساعة، والبيئة العراقية بعد جرائم أمريكا والتطاحن الداخلي هيّأت ظهور مقاتلين شرسين، لا فرق عندهم بين الموت والحياة. ولا يمكن استبعاد المصلحة الأمريكية في دعم الانتشار السريع بالطرق المباشرة وغير المباشرة، وهو المرجّح من أجل فرض مفاوضات بين الحكومة العراقية والعشائر السنّية، من أجل نظام حكم لا يستبعد أهل السنّة ولا يهمّشهم وكذلك لوقف سياسة التوسع الإيرانية في المنطقة.ما هي أهداف تنظيم الدولة ”داعش” على المدى القريب؟ أهداف تنظيم داعش في الآجال القريبة، صناعة واقع يعترف به الجميع، من أجل الاعتراف بها كدولة من طرف واحد، يعني أنّ داعش لا تؤمن بالشّرعية الدولية، ولكن واقعيًا تتعامل إيجابيًا مع الاعتراف الدولي لو حصل، وهذا ما يُفهم من خطابات ورسائل قادة التنظيم، ولذلك تنظيم داعش لا يقاتل خارج حدود الدولة، إلاّ إذا استهدف مباشرة وهذه سياسيته الّتي يختلف فيها عن القاعدة، فهو يرى أولوية قتال القريب، بينما القاعدة غيّرت المنظومة القديمة، وأصبحت ترى أولوية قتال البعيد، وتقصد به أمريكا تحديدًا ثمّ الغرب. وكذلك امتلاك منطقة جغرافية واسعة، تسمح بالإعداد والاستعداد وتجميع القوى، وإقامة نظام الشّريعة برؤيتها تُصبح به دولة استقطابية مرجعية للمسلمين في أنحاء الأرض، كما حدث بعد إقامة دولة المدينة، هكذا ينظرون وإن كان هذا الاستنساخ الحرفي لبعض تجارب التاريخ غفلة وشرود عن الواقع.حاولتم من خلال كتابكم ”من الخوارج إلى داعش قراءة في منهج العنف وعقيدة الدم” كشف المستور للدّور الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا، وراء تأسيس هذا التنظيم، بهدف تأزيم الأوطان العربية والإسلامية وتقسيمها، فعلى أيّ أساس بنيتُم تحليلكم؟ الحقيقة أنّ الكتاب في عمومه يركّز على فهم العلل الداخلية، وكيف نشأ فكر العنف في ديارنا، ويشير إلى استفادة القوى الكبرى منه، في تحقيق مصالحها، لكن لا يركّز على فكر المؤامرة، ففكر المؤامرة من عيوبنا الكبرى في التفكير، لأنّه يبحث عن العلّة بعيدًا عن الذّات. لكن لا يُمكن أن ننكر أنّ السياسات الغربية قديمًا وحديثًا والسياسة الأمريكية على وجه التحديد، تبحث عن تشجيع الظروف الّتي تساعدها على تنفيذ مشاريعها، خصوصًا وأنّ أمريكا بشّرت بشرق أوسط جديد، كان قد أعلن عنه بوش الابن بعد سقوط العراق وأفغانستان، وتنبّأ به صمويل هنتغتون في كتابه الشهير ”صدام الحضارات”، من أجل مصلحة أمريكا العليا، كما قال فرنسيس فوكوياما في كتابه ”نهاية التاريخ”.ألاَ تعتقدون أنّ تحميل مسؤولية ”داعش” للغرب يمنعنا من تحمّل مسؤولية تغذية التطرّف والتشدّد داخل الثقافة الإسلامية؟ الكتاب يحمّل المسلمين المسؤولية الذاتية عن نشوء هذا الخبل، فلا يُمكن أن ننكر أنّنا أمام فكر عقائدي، والشباب الّذي يفجّر نفسه وبعضهم أطباء ومهندسون وبعضهم وضعهم الاجتماعي جيّد كالّذين فجّروا طائرات البرجين في أمريكا فـ 9 منهم على الأقل يملكون شهادات جامعية عليا ودراسات متقدمة في الطيران والعلوم التقنية ومستوى معيشيًا راقيًا في مدن أمريكا، ومع ذلك فجّروا أنفسهم، ممّا يكشف عن العامل العقائدي في التحرّك، ومن هنا وجب أن نعيد دراسة تراثنا ونفهم تسرّب هذه العلل منه إلى حياتنا ونجتهد في محاصرتها بالعلم والعمل وتشجيع الحوار وفتح الحريات واحترام ثوابت الشعوب.هل نحن في حاجة لفحص ذاتنا وفهم ما حدث وما يحدث لفصول تاريخنا الدّامي وكيف ارتبط الحكم بالدم؟ نحن بحاجة إلى هذا الفحص لأنّه يتكرّر باستمرار، والأمر إذا تكرّر وتوسّع يحتاج إلى دراسة وفهم، فإنّ التبرير الدّيني والشّرعية الدّينية هي أخطر ما يرتكز عليه مَن يقدمون على ذبح النّاس وقتلهم واستهدافهم من غير اكتراث، فقديمًا قتل الأوروبيون المتعصبون الشعوب باسم المسيح في ”الحروب المقدسة”، وقتل النّاس باسم آلهتهم الخلائق، وقتل بعض المسلمين إخوانهم المسلمين باسم الله، وكتب منظّروهم يجمعون الأدلة الشّرعية الّتي تبرّر هذه القبائح ونسبوها إلى الله والرّسول ”قُلْ إِنّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.هل تعتقد أنّ ثقافة التّعايش والحوار باستطاعتها هزم ثقافة الصّدام والعنف وإقصاء الآخر؟ إقرار الحريات والتّعايش وإشاعة الحوار تساعد في تهيئة بيئة تخنق ثقافة العنف والأهم من ذلك بعث نظام سياسي يقوم على مرجعية الشعب ينهي الصّراع حول معضلة الحكم، بالإضافة إلى معالجة حكيمة لبرامج التعليم وإصلاح المناهج برؤية مرجعية يقرّها أهل الاختصاص والعلم ويزكّيها الشعب مع تشجيع برامج ترقية الذّوق والجمال والحسّ المدني، ولا ننسى ضرورة الاهتمام بإصلاح بعض العطب في تراثنا لردّه إمّا إلى سياقاته وظروفه وملابساته، أو باجتهاد يلغي العوج الّذي ارتبط بديننا ظُلمًا.هذه الحرب المعلنة عبر العالم، على التطرف، كيف يمكن أن يتعامل معها المسلمون؟ المسلمون هم أوّل ضحايا التطرف، فليس من الدّين ولا من العقل ولا من المصلحة أن يتأخّروا عن التّنديد به واستنكاره من غير تبرير ولا تفلسف، بل من واجبهم اليوم أن يُبادروا بقوّة وبوعي لمحاصرة هذا العنف الأعمى الهمجي الّذي يصب في رصيد إسرائيل أوّلاً، ولكن ما نأسف له أنّ بعض الدول العربية والإسلامية تسيّس هذه المواجهة لتستفيد منها في إبقاء رداءة أجهزتها السياسية البالية وبعضهم يستفيد منها لمحاربة المنافس السياسي وبعض دول الغرب توظّفها لصالح أهدافها الاستراتيجية من أجل إعداد خارطة جديدة لشرق أوسط جديدة أكثر تفتّتًا قائمًا على المذهبيات والاثنيات تكون فيه إسرائيل هي الدولة الكبرى عسكريًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا.والتاريخ يكشف عن فشل هذه السياسات، فالحكمة تقتضي تعاون العقلاء من محبّي السّلم لمحاصرة هذا المرض الّذي يفتكّ بالجميع، فهو يستهدف المسلم والمسيحي بل استهدافه للمسلم أشدّ، ويستهدف السنّي والشيعي واستهدافه للسنّي أشدّ، ويستهدف العربي والأعجمي واستهدافه للعربي أشدّ، ثمّ على الدول العربية أن تبادر، حماية للأوطان، في فتح نظام سياسي يقوم على المرجعية الشّعبية والآلية الديمقراطية والالتزام بالقانون وحماية الحقوق، وفي أجواء السّلم يُبنى بالتدرّج والحوار والتّصابر الداخلي والتّنازل أثناء مرحلة البناء إلى أن ييسّر الله نظامًا سياسيًا ناضجًا ننافس به غيرنا وذلك أهم حلّ تاريخي نقدّمه للأجيال اللاحقة.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات