مواقع أثرية تاريخية خربتها أيادٍ جزائرية بوهران

+ -

يعلم جميع الجزائريين أن الاستعمار الفرنسي سعى بكل قواه إلى طمس الشخصية الجزائرية ومحو تاريخها الذي تمتد جذوره إلى ما قبل التاريخ، لكن ما لا يعلمه جلهم أن مسوؤلين جزائريين وقّعوا شهادات وفاة معالم أثرية محمية بوهران تشهد أن الجزائر كانت دوما مهدا للحضارات الإنسانية. لا يختلف اثنان في أن المواقع الأثرية وبخاصة المصنفة منها تعتبر من المصادر الأساسية المعتمدة في كتابة تاريخ الجزائر عبر مختلف العصور التي مرت بها، والمحافظة عليها تعني المحافظة على التاريخ الذي يجعل الأجيال المتعاقبة تتعرف على تراث بلدها، وما يحمله من آثار تشهد على أن جزائرهم كانت قبلة لمن تصدروا الحضارات العالمية منذ الأزل، بالنظر لموقعها الاستراتيجي وما تزخر به من طبيعة برية وبحرية تتربع على ساحل يطل على البحر المتوسط، فضلا عن البيئة الطينية التي تميزت بها، والتي جلبت إليها أقواما كان اقتصادهم مبنيا على صناعة الخزف والجرار، على غرار الفينيقيين والرومان وحتى الإغريق في عهد ما قبل الميلاد، الذين تشهد معالم ومواقع أثرية لهم بوهران أنهم “مروا من هنا” ومكثوا زمنا طويلا وخاضوا حروبا ضارية مع جيوش معادية لهم كانت تأتيهم من جهة البحر المتوسط.لكن ما يؤسف له أن كثيرا من المواقع الأثرية المصنفة بوهران تم طمسها، بعدما سمح وزراء وولاة وحتى رؤساء بلديات بإنجاز مرافق وسكنات عليها رغم نضال بعض حماة التراث التاريخي المادي واللامادي، وهذا فضلا عن وجود مواقع أثرية أخرى مهملة قد تتعرض للتخريب والنهب إذا ما لم تتخذ الدولة الجزائرية قرارا بإعادة إحيائها وتصنيفها ثم حمايتها، حفاظا على تاريخ الجزائر من جهة، وتطويرا لقطاع السياحة من جهة أخرى، لأنها من العوامل التي تساهم في جلب السياح، خاصة أن الحكومة تسعى جاهدة إلى تطوير الاقتصاد السياحي كبديل عن الاقتصاد المبني على ريع البترول والغاز.المدينة الرومانية “كاسترا بويروم”:موقع أثري مصنف غزاه الإسمنتبعدما سمعنا عنه فيما يتعلق بالتراث الجزائري المنتهك أو المهمل إلى غاية اليوم والمتواجد ببلديات على الساحل الوهراني، اتصلنا بجمعية حماية البيئة والتراث “أونزا” التي طالما دافعت عن مواقع أثرية يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد وبعده. وبمجرد أن طرحنا على رئيسها مراح العنصري فكرة البحث عن المعالم الأثرية التاريخية والطبيعية المصنفة، أصر على إطلاعنا على ما يمتلكه من أرشيف يؤرخ لآثار خلفها الفينيقيون والرومان وغيرهم من الأقوام الذين لجئوا إلى الجزائر واحتموا بها، وذلك قبل أن يقودنا إلى مواقع أطلعنا فيها على آثار عمرها مئات السنين.وأول موقع اقتفينا آثاره هو “المدينة الرومانية” التي تعرف اليوم باسم “الأندلسيات”، هذه المدينة التي ذكر المؤرخون أن الرومانيين تمركزوا فيها سنة 250 بعد الميلاد وأطلقوا عليها اسم “كاسترا بويروم”، وهي مقابلة لـ “الجزيرة المسطحة” التي سميت في العهد ذاته بـ “جزيرة ستوكادوس”. هذه المدينة تم تصنيفها سنة 1952 من قبل الاستعمار الفرنسي، بعدما قام المعمرون بالحفريات، كموقع أثري محمي يتربع على مساحة 4 آلاف متر مربع. وأعيد تصنيفها سنة 1968 من قبل المختصين الجزائريين كموقع أثري من المحميات.وفي سنة 2004 وبعد أن شعرت بأن الإسمنت سيغزو المنطقة بإنجاز مشاريع سياحية، راسلت جمعية حماية البيئة والتراث بالعنصر وزارة السياحة تطالبها بتثمين الموقع، وكان رد الأخيرة الذي لا زال بحوزة جمعية “أونزا”، “إننا نقف معكم فوق نفس الاهتمام حيال هذا التراث”، ودعت أعضاءها إلى “مواصلة الجهد في الكشف عن التجاوزات التي قد تحدث أو تمس بشكل ما دعائم تاريخنا المجيد أو تنال بسوء العناصر الأساسية المكونة لذاكرة شعبنا الجماعية وملكه”، ليتبين بعد ذلك أن كل كلام وزارة السياحة المؤثر راح هباء.وفي سنة 1985 قام عناصر من الجيش الوطني الشعبي باقتلاع الأعمدة العملاقة التي شكلت النسيج المعماري الروماني، إضافة إلى نزع قطع أثرية حولتها إلى المركب السياحي العسكري “المرجان” ببوسفر شاطئ. ولا زالت بعض القواعد التي كانت تحمل تلك الأعمدة التي شيدها الرومان، فضلا عن قطع أثرية شاهدة على تواجد الجنس الروماني في القرن الثالث الميلادي بساحل وهران، متواجدة بمنطقة تسمى اليوم “مزرعة حنصالي” المقابلة لمركب الأندلسيات.وعقب ذلك استمر زحف الإسمنت على هذا الموقع الأثري المصنف الذي غزته البنايات الفوضوية، في وقت لم يستغل ليحدث تزاوجا بين السياحة البحرية والأثرية الممزوجة بالطبيعة.مقبرة الحلزون.. شاهد على حضارات يتحول إلى مفرغة للنفاياتخُيل إلينا ونحن نجوب الساحل الوهراني للوقوف على الزخم التاريخي الذي يزخر به، والمتجسد في مختلف المواقع الأثرية القديمة التي تمثل تاريخ بلد اسمه الجزائر، أننا نتحدث عن مدن لم نسمع عنها إلا في تاريخ الإغريق القديم. والحال كذلك على الموقع الأثري الذي يطلق عليه اسم “مقبرة الحلزون” المتواجد بالقرب من الكثبان الرملية بشاطئ “كوراليس”، هذا الموقع شاهد على مرور عدة حضارات بالساحل الوهراني يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد.وحسب رواية سكان المنطقة وكذا رئيس جمعية حماية البيئة والتراث، فإنه في سنة 1981 عندما شهد الساحل الوهراني عواصف قوية تسببت في حدوث عدة كوارث، جرفت الأمواج العاتية رمال الكثبان الرملية بشاطئ “كوراليس”، فكشفت عن وجود آثار بناءات شاهدة على أن المنطقة كانت مهد حضارة مدنية قبل مئات السنين، وبعد عودة الرمال بفضل قوة العاصفة اختفت تلك الآثار. مع العلم أن هذه الموقع الأثري أهمله المختصون وكذا الجهات المعنية بالبحث عن الآثار التاريخية، وقد يتعرض للنهب ذات يوم إن تم كشفه من قبل من يتاجرون بتاريخ بلادهم.المرصد البونيقي.. موقع صنفه الاستعمار وطمسه مسؤولون جزائريونتكشف الوثائق التي بحوزة جمعية حماية البيئة والتراث بالعنصر أن المرصد البونيقي المتواد بساحل وهران، غير بعيد عن مركب الأندلسيات، يحتضن مقبرة جماعية فينيقية، وهو مصنف كمعلم أثري منذ الحقبة الاستعمارية. وما يؤكد ذلك عقدُ التسجيل الذي أصدرته السلطات الاستعمارية سنة 1954 وجاء فيه “إن الإدارة الفرنسية العليا تعلن تصنيف المعالم التاريخية ومواقع مقبرة المدينة التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد بالأندلسيات، وأن أي تغيير لن يتم بالمكان المشار إليه دون رخصة من الحاكم العام للجزائر”. ويضاف إلى ذلك الرسالة التي وجهها العميل الفرنسي بوهران إلى رئيس بلدية العنصر في 23 سبتمبر 1957،بخصوص تصنيف المدينة التاريخية بالأندلسيات، والتي ذكّره فيها بأنه “لا يمكن المساس بالمعالم والمواقع المصنفة، وأن استحداث أي تغيير بها يجب أن يتم بترخيص من وزير الفنون الجميلة الفرنسي، بعد أخذ رأي اللجان الإدارية والعليا”، منوّها بالقوانين المتعلقة بتصنيف هذا الموروث التاريخي.ولكن من المؤسف أن ما صنفه الاستعمار الفرنسي وحرص على المحافظة عليه، رغم أنه لا يمثل تاريخه، طمسه والي وهران سنة 2000 بجرة قلم حين سمح بالتنازل عليه لصالح مستثمر لإنجاز مركب سياحي. مع الإشارة إلى أنه بعد انطلاق أشغال الحفر المنوطة بهذا المشروع ظهر على سطح المقبرة البونيقية عظام وجماجم آدميين، بالإضافة إلى أوانٍ فخارية مستعملة في الحقبة التي عاشوا فيها بالمنطقة، الأمر الذي دفع ممثلي المجتمع المدني للتدخل على مستوى ولاية وهران لحماية الموقع من التخريب والدمار، كما راسلوا الوزارة المعنية لمنع مواصلة الأشغال. وإثر ذلك تنقل مدير الوكالة الوطنية للآثار وحماية المعالم والنصب التاريخية إلى عين المكان، ودوّن تقريرا أوفده إلى والي وهران ذكر فيه “إنه بعد حفريات الإنقاذ التي قامت بها فرقة الباحثين للوكالة الوطنية للآثار، خلال المهمة التي دامت من 16 إلى 25 سبتمبر 2000 بالأندلسيات، اتضح لنا أن هناك أشغالا جارية في إطار إنجاز مشاريع مركبات سياحية، وذلك بالمعلم التاريخي المسمى المقبرة البونيقية المصنف منذ سنة 1954 والمنشور بالجريدة الرسمية رقم 7 بتاريخ 23 جانفي 1968. وعليه، حمايةً لهذا المعلم التاريخي وتطبيقا للقانون رقم 4/98 بتاريخ 15 جوان 1998 المتعلق بحماية التراث الثقافي والمحافظة عليه وتثمينه، نتقدم إلى سيادتكم بطلبنا هذا والمتمثل في وقف الأشغال وكذا كل المشاريع الجارية بالأندلسيات”.ورغم كل هذا تواصلت الأشغال بالموقع الأثري المصنف الذي بقي منه جزء يحتاج إلى اهتمام ورد الاعتبار من قبل المسؤولين عن التراث التاريخي بالجزائر.جرف العالية.. معلم تاريخي طبيعي غيبته المحاجراستمرت رحلة بحثنا عن المواقع الأثرية إلى غاية بلوغنا جبلا تحيط به آثار تعود إلى أكثر من ألف سنة، وهي شاهدة على مراحل تاريخية مرت بها الجزائر عبر العصور، يتعلق الأمر بـ “جرف العالية” أو “برانكو دي لامورا” الذي تكشف مكنوناته عن حضارات عرفتها منطقة العنصر ووهران.هذا الموقع، حسب أرشيف جمعية حماية البيئة والتراث، مصنف كتراث تاريخي طبيعي منذ 25 جويلية 1860، وزائره يكتشف حين يغوص في ثناياه مناظر طبيعية مذهلة، وأنفاقا، ومغارات، وشلالات تجعله يحس وكأنه في غابات الأمازون.وعلى قمة جبل “جرف العالية” المرتفع عن سطح البحر بما يربو عن 360 متر، يوجد موقع “بربار” الذي يعود تاريخه إلى 1200 سنة قبل الميلاد، وآثاره شاهدة على تواجد “الزناتيين” بالعنصر. أضف إلى ذلك المقبرة المتواجدة على بعد 300 متر التي يعود تاريخها إلى العهد البونيقي.الغريب في الأمر أن المختصين يدركون أهمية منطقة “جرف العالية” تاريخيا وسياحيا وبيئيا وطبيعيا، لكن لا أحد تدخل لحمايته رغم أن الحاكم العام الفرنسي بالجزائر حماه وقت كانت الجزائر مستعمرة فرنسية، ورفض إنجاز عليه أي مشروع. مع الإشارة إلى أن “جرف العالية” يمتد إلى غاية غابة المسيلة السياحية التي تستقطب زوارا من ولاية وهران، ولو لقي العناية لصار محل اهتمام السياح محليا وأجنبيا. ولو أن جزءا منه في الجهة المقابلة لمدينة العنصر دمرته جرافات المحاجر التي سمحت السلطات المحلية والولائية بإنشائها.المختص في حماية التراث مراح العنصري: يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثاربعد أن جال معنا مختلف المواقع الأثرية التي حاولنا إماطة اللثام عنها، عبّر لنا مراح العنصري، المختص في حماية التراث والبيئة ورئيس جمعية “أونزا” التي حاولت الدفاع عن الآثار التاريخية المنتهكة، عن أسفه الشديد للخراب والإهمال الذي طال معالم أثرية هي جزء من تاريخ الجزائر، في وقت دعا إلى ضرورة الاهتمام بما تبقى منها بعدما طمس جلها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عن طريق اللجوء إلى الحفريات وإعادة التصنيف ثم حماية المواقع، ولعل أول موقع يستوجب هذا الإجراء حسبه هو ذلك المحاذي لمركب “نيوبتش” والمعروف حاليا باسم “الديوانة”، والذي هو جزء من المقبرة الفينيقية ومصيره مهدد من طرف مافيا العقار. تنويــه: خلال حديثنا عن المواقع التاريخية، تجنبنا الدقة في ذكر أسماء الأماكن المتواجدة فيها بعض المعالم الأثرية، بطلب من جمعية حماية البيئة والتراث بالعنصر، وهذا مخافة أن يبحث عنها مخربون فيقوموا بنهب القطع الأثرية المتواجدة بها ويتاجروا فيها.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات