لقد عودتنا يا أستاذ سعد على قول الحقيقة كاملة، لكن في موضوعي “أجراس مالطا وآذان سلال” و “أمريكا تحرق أوروبا بالفوضى الخلاقة؟”، بدا لي أنك ذكرت جزءا فقط من الحقيقة، ولذلك أتشرف بإتمام ما أظن أنه بقي منها.تساؤلك “لماذا لا يتجه الجزائريون إلى التوانسة أو المغاربة لتطوير السياحة؟” هو تساؤل في محله، بل إن الأمر يتعدى السياحة إلى البناء والفلاحة وغيرها، والدليل أن أرقى الأحياء وأصلبها وأغلاها ثمنا في تبسة مثلا هي الأحياء التي بناها التوانسة في الثمانينات، وهي أحياء تيفاست والرياض وعلي مهني، ويمكنك التأكد من ذلك بنفسك إذا زرت هذه المدينة، وعلي مهني هو صاحب المقاولة التونسية التي شيدت هذه الأحياء وبقي أحدها إلى اليوم معروفا باسمه، كما أن تونس هي أول مصدر في العالم للزيتون ومشتقاته، بينما نحاول نحن منذ سنين تطوير هذه الزراعة. فسؤالك إذن يحمل مغزى عميقا، وهو نفس السؤال الذي طرحه مقاولون جزائريون عندما حُرموا من إنجاز الطريق السيار.متأكد أن مشاريع البناء والطرقات لو منحت للجزائريين والتوانسة لأُنجزت بنوعية أحسن وبتكلفة أقل، ولاستفاد هؤلاء من الأموال الضخمة التي أخذها الصينيون وغيرهم.أوافقك الرأي فيما ذهبت إليه في كون الغرب تعاون مع الأمراء والملوك العرب للإطاحة بالدول الوطنية في العالم العربي، لكن أعارضك في نقطتين هامتين كان من المفروض أن تذكرهما نظرا لما لديك من تجربة في تتبع المسار السياسي العربي منذ الاستقلال. النقطة الأولى أنك وضعت كل الملوك في “شكارة واحدة”، واعتبرت أن الجمهوريات هي دول وطنية والمملكات غير ذلك، فمصر مثلا هي دولة وطنية والمغرب غير ذلك، وهذا التقسيم غير منطقي. أما أسباب انهيار الدول الوطنية حسب تصنيفك فلا يعود فقط إلى تعاون الغرب مع الأمراء والملوك العرب، بل لأن التي سميناها الدول الوطنية حملت في نشأتها بذور زوالها. لقد أخطأنا حتى في تسميتها بالدول الوطنية لأننا اكتشفنا اليوم أنها لم تكن أصلا دولا بالتعريف العصري، بل كانت مجموعات تمكنت في لحظة زمنية من امتلاك قوة عسكرية سمحت لها بالاستيلاء على ثروات أوطانها، ثم شكلت تنظيمات إدارية سمتها جمهوريات وفرضتها كأمر واقع. وبذور زوال ما سمي الدول الوطنية يتمثل في ما يلي:- أنها تأسست بالقوة العسكرية وليس على الشرعية الشعبية، ما جعلها في وضع صدامي دائم مع شعوبها، وعادة ما يقع هذا الصدام بين الجيش والشعب ويتسبب في خسائر بشرية ومادية كبيرة.- أنها تأسست أيضا على الحكم الفردي والفكر الواحد، فلا بد أن ينجر عن هذه الوضعية هدر كبير للإمكانيات البشرية والمادية لهذه البلدان، وأحسن تعبير على ذلك ما ورد في الميثاق الوطني “صهر الشعب في بوتقة واحدة”، وهي الجملة الوحيدة التي أتذكرها من هذا الميثاق الذي كنا تعتز به في زمن ولّى. فهذا الفكر الأحادي نجم عنه إلغاء الفرد واغتيال الفكر وقتل الإبداع وقمع المعارضة.كل هذه الإخلالات سهلت مهمة الغرب والأمراء والملوك في الإطاحة بها. ولعلك تلاحظ أن كل الدول التي تسودها الفوضى الخلاقة اليوم هي الدول الوطنية ذات الحكم العسكري، والدولة الوحيدة التي نجحت إلى حد ما هي تونس، لأنها لم تدخل في هذا التصنيف، وكان فيها حكم مدني. ليس العيب أن نخطئ بل العيب كل العيب أن نستمر في الخطأ عندما نكتشفه.عبد الله بوساحيةمهندس وكاتب صحفي[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات