حفّارو القبـور: لسنا "قبـّاض الأرواح"

+ -

يقف الشاوي، كما يُفضّل أن يلقب متكئا على شجرة تظلله من أشعة الشمس الحارقة ممسكا بفأسه، ثيابه بالية يرتديها منذ أربع سنوات وحذاؤه أكل عليه الدهر وشرب، وهو ينتظر وصول شاحنة خزان المياه ليبلّل التراب ويباشر عمله في حفر القبور.. يقول إن وحشة المقبرة لا تخيفه حتى وإن لم يفقد إحساسه برهبة الموت، لكن ما يقهره “حڤرة”  وازدراء الأحياء، و”الفتات” الذي يناله كل نهاية شهر مقابل 12 ساعة عمل يوميا.. “لكن فيما العجب ما دمت شاهدا على أن المواطن درجات حتى في المقبرة”.ينام ويصحو حفار القبور، الشاوي ابن 30 عاما منذ ثماني سنوات، على مشهد القبور على مساحة شاسعة مترامية في مقبرة العالية في باب الزوار بالعاصمة، فصباحه يبدأ على الساعة السابعة صباحا موعد بداية ساعات عمله وينتهي على الساعة السابعة مساء إن لم يحدث طارئ بوصول جنازة ليلا، ليرمي جسده المنهك بحفر ثلاثة وحتى أربعة قبور أحيانا، على فراش بال بين القبور أيضا في قاعدة الحياة أو ما يسميها هو “قاعدة الموت”.لم يمانع الشاوي الحديث إلينا عندما قطعنا عليه حالة سكونه، ولم ينتظر كثيرا حتى يبح لنا بما يشغله وهو يقف متأملا صمت القبور “اسأليني عن معاناتي مع الأحياء وليس مع الأموات، أنظري مثلا أنهيت حفر قبر في المربع الآخر وطلبت على جناح السرعة إلى هذا المربّع الذي لا يدفن فيه إلا أصحاب الواسطة، وأنا أنتظر منذ أكثر من ساعة تحت الشمس قدوم شاحنة خزان المياه لأبلل التربة قبل أن أحفر القبر، وربما قد تصل الجنازة ولا يصل الماء”.فتح القبور دون حماية.. نقترب من جثت متعفنة دون حمايةسألت محدّثي عن الصعوبة التي يواجهها في حفر القبر، فرد متنهدا “الحفر متعب وينهك القوى خاصة إذا كانت التربة جافة وصخرية، لكن إعادة فتح قبر قديم أو حديث الدفن معاناة أخرى”.وذكر حفار القبور، الشاب القادم من أقصى الشرق والذي بدأ مهنته وهو في 22 من عمره، أن حفار القبور يعاني الأمرين عند فتح القبور القديمة، فأحيانا يجدها قد بنيت بالإسمنت المسلح وأخرى مدعمة بالحديد، مما يصعّب عليه مهمته، خاصة وأن إدارة المقبرة لا تزوّد الحفارين بوسائل العمل،  وحتى المعول والمجرفة “البالا” يحصلون عليها بفضل صدقات المحسنين، “لكن الأصعب عند فتح قبر جديد أو قبر لم تتحلل الجثة فيه بشكل كامل دون أدنى حماية”.أردفا محدثا مواصلا “قمنا مؤخرا بإعادة فتح قبر لإخراج الميت بعد 11 يوما منذ دفنه بسبب شكوك في ظروف وفاته، ورافقتنا الشرطة العلمية لإعادة فتحه، تصدقين أن الإدارة لم تزوّدنا لا بالقفازات ولا بالكمامات ولا حتى بالملابس المناسبة لإخراج الجثة التي بدأت تتحلل، رغم ما قد يشكله الأمر من خطر على حياتنا، لولا أن أفراد الشرطة العلمية انتبهوا للأمر وقاموا بتزويدنا بالكمامات..الموت يتربص بنا كل يوم هنا بين الأموات”.لسنا “قابض الأرواح”المهنة الكئيبة المتعبة والراتب الزهيد، 33 ألف دينار بالنسبة للشاوي مقابل 12 ساعة عمل، والمشاهد القاسية التي يحدث وأن تصادفه مثل الجثث المنتفخة والمتحللة وغيرها ليست وحدها ما يصنع معاناة حفار القبور، فالتعامل مع أسر الموتى معاناة ذات شجون، “فالكثيرون يعاملوننا بازدراء وكأننا مواطنون من درجة أخرى، وآخرون يحتقرون مهنتنا متناسين أنهم حتما سيحتاجون يوما لحفار القبور طال العمر أو قصر”.وأضاف محدثنا أن بعض أقارب الموتى يحاولون إرغامنا على دفن قريبهم حتى وإن لم تكن الوثائق بحوزتهم، وعبثا نحاول إقناعهم بأن الإجراءات تلزمنا استلام الترخيص بالدفن قبل مباشرة الدفن. وروى لنا حادثة أحد زملائه الذي تعرض لضرب مبرح من أقرباء متوفى بعد أن حاول منعهم من دفن الميت، لأنهم تأخروا في جلب التصريح من الإدارة.وتذكّر آخر حادثة وقعت له في منتصف التسعينيات في أوج الأزمة الأمنية، “عندما أشهر أحدهم المسدس في وجهه عندما طلبنا منه جلب الترخيص بالدفن، وما كان عليّ إلاّ الانصياع إلى طلبه وإلا كنت سأجد نفسي في القبر الذي حفرته بيدي”.وتحدّث حفار القبور أيضا عن “احتقار” البعض قائلا “نواجه في كثير من الأحيان سلوكيات غريبة تؤكد النظرة الدونية اتجاهنا، مثل حادثة وقعت قبل أيام مع شابة اكتشفنا أنها تقوم بتصويرنا ونحن نقوم بحفر قبر، وعندما نهرها زميلي انهالت عليه بوابل من الشتائم واتهمتنا قائلة بأننا نتنبأ بالموت أو نعيّطو لعزرائيل على حد قولها”.ملابس بالية منذ أربع سنواتوأنا أواصل جولتي في المقبرة الشاسعة، في يوم حار استوقفني مشهد حفاري القبور وهم جالسين يسترجعون أنفاسهم في استراحة مؤقتة، لأسأل أحدهم عن ظروف العمل في الحر والبرد، فرد أحدهم وعلى وجهه ابتسامة سخرية “نعمل تحت المطر الغزير وتحت الشمس الحارقة دون حتى ملابس تحمينا، أنظري إلى ثيابي البالية، أرتديها منذ أربع سنوات صيفا وشتاء مع أنه من المفروض أن يكون لدينا لباس للصيف وآخر للشتاء يغيّر سنويا، لكن في كل مرة تعلمنا الإدارة أنها ستقتني اللباس قريبا، لكن لا حياة لمن تنادي ربما هم بصدد اختيار القماش المناسب” يقول ضاحكا.يصمت محدثنا لبرهة قبل أن يواصل حديثه مشيرا إلى عون الأمن الواقف أمامه “حتى هؤلاء جلبوا لهم ألبسة جديدة في 1 نوفمبر عشية زيارة الرئيس بوتفليقة للمقبرة، ثم استرجعوها مباشرة بعد مغادرته”. يضحك الجميع قبل أن يقاطعهم آخر “وهل نسيتم الخيم التي سمعنا أنهم جلبوها لنستعين بها لحمايتنا عند حفر القبور عندما يهطل المطر لكن لم يظهر لها على أثر، فأين ذهبت؟”.الدفن ليلا معاناة أخرىيخطئ من يظن أن دفن الموتى لا يتم في الغالب إلا بعد صلاة الظهر أو العصر على أقصى تقدير، فيحدث أن تصل جنازة متأخرة بعد صلاة المغرب ليضطر حفار القبور إلى القيام بواجبه خارج أوقات العمل وبدون تعويض الساعات الإضافية، يقول أحدهم في حديثه إلينا “حدث وأن دفنت ميتا على 11 ليلا وحتى في منتصف الليل رغم أن ساعات عملي تنتهي في السابعة مساء، لكن ما باليد حيلة عندما تصل جنازة متأخرة، ولكي أن تتصوري معاناة العمل في ظلام دامس بهذه المساحة الشاسعة في غياب تام للإنارة”.يقاطعه آخر قال إنه يقيم في باب الوادي ويمارس هذه المهنة منذ 28 سنة، قال إنه يغادر بيته على الخامسة صباحا كل يوم “أغادر في الظلام وأعود إلى بيتي في الظلام، وأجد نفسي أحيانا مجبرا على البقاء هنا إلى ما بعد صلاة العشاء، دون حتى أن يفكر المسؤولون في توفير وسيلة نقل “إنها الحڤرة بعينها”.غادرنا المقبرة إلى عالم الأحياء تاركين الحفارين لعملهم، ونحن نسترجع كلمات أحدهم “قولي للمسؤولين أنظروا لحالنا، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.مقبرة أو مزار سياحي!؟  اشتكى حفار القبور من غياب احترام “حرمة المقبرة” لدى الكثير من زوارها، فحسبهم، حوّلها البعض إلى مزار سياحي ومكان للقاء الأزواج والممارسات غير الأخلاقية، “ البعض يطلق العنان لصوت الموسيقى المنبعثة من مذياعه دون مراعاة لحرمة الموتى ولا لمشاعر حزن زوار المقبرة على فقيدهم، والبعض يسرعون بسياراتهم ويدخلون في شجارات مع السائقين الآخرين مطلقين لسانهم بالسب والشتائم، متناسين أنهم في مقبرة، مجتمعنا بكل تناقضاته وسلبياته نراه هنا بين الموت.. ماذا ننتظر من أشخاص لا يعتبرون بالموت؟”.المواطن يدفع والمسؤول بالمجانسياسة الكيل بمكيالين التي يعاني منها المواطن البسيط في حياته “بين الأحياء” يعيشها أيضا في المقبرة، فحسب الشهادات التي استقيناها من حفاري القبور في مقبرة العالية، غالبا ما يعفى المسؤولون وأصحاب “المعريفة” من دفع تكاليف الدفن، كما يتم تخصيص سيارة إسعاف مؤسسة تسيير الجنائز والمقابر، “وقد يقومون ببناء القبر على حساب المؤسسة” بينما لا يعفى المواطن البسيط من دفع رسوم الدفن “طبعا نزيدو الماء للبحر” يقول أحد الحفارين في حديثه إلينا.حتى الدفن بالمعريفة! “المواطن درجات حتى في المقبرة” بهذه الكلمات بادرنا حفار القبور وهو يحدثنا عن الواسطة التي “يتبجّح” بها أقارب “لموتى فوق العادة” لدفن موتاهم، يشير محدثنا إلى قبر رضيعة حديثة الولادة، هي حفيدة مسؤول معروف في ولاية الجزائر، دفنت في المربع القريب من البوابة الرئيسية لمدخل مقبرة “العالية”. يقول محدثي “أنظري إلى هذا القبر، أظنك تعرفين من الاسم المكتوب على الشاهد حفيدة من تكون، كان يفترض أن تدفن في المربع الخاص بالرضع في الجانب الآخر، لكن نفوذ جدها سمح له باختيار المكان الذي تدفن فيه، لتكون قريبة من البوابة الرئيسية عندما تريد عائلتها زيارتها”.هذا السلوك أصبح “موضة” حسب محدثي، “فالجميع يريد اختيار مكان قبر قريبه، وحجته في ذلك أن واسطته تسمح له بذلك، الأمر أصبح مسألة “معاندة” وفقط”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات