انظروا إلى الدول الحية كيف تتصرف مع الأزمات الوطنية! فرنسا يقف رئيسها هولاند على قدم واحدة منذ أيام ولا ينام لأن بلده لا ينام.. يلغي كل أجندته الرسمية وغير الرسمية ويتفرغ لكفكفة دموع شعبه، بإجراءات سريعة وفعالة. يعلن الطوارئ ويكثف البحث عن المجرمين ويحدد هويتهم في ظرف أيام.. ويصل به الأمر إلى حد الاجتماع بالبرلمان بغرفتيه لطلب تمديد حالة الطوارئ وحتى تعديل الدستور. ويجتمع بكل الأحزاب السياسية... الحلفاء والخصوم بلا استثناء.الضربة كبيرة والصدمة أكبر، لكن أداء الحكومة والرئاسة الفرنسية في التعامل مع الأزمة يثير الإعجاب لمن يحلم عندنا بتكوين دولة مثل بقية خلق الله.نعم.. كنا نتابع على المباشر وقائع أحداث بن طلحة والرايس في قلب باريس، تماما مثلما حدث عندنا قبل 20 عاما.. ولكن أداء الحكومتين يختلف. هم دولة ونحن شبه دولة..الإعلام الفرنسي كان رائعا هذه المرة في التعامل مع القضية، فلم يجرّم الحكومة الفرنسية ولم يجرّم غيرها.. بل جرّم المجرمين.. وقام فعلا بوضع النقاط على الحروف:الفرنسيون هم من نفذ هذه الجرائم ضد فرنسيين.. والسبب هو فشل المجتمع الفرنسي في التكفل بهؤلاء دينيا واجتماعيا ورعاية وأمنا وتربية وتعليما وعملا.الفرنسيون والبلجيكيون هم من وضع الأسس لهذه المأساة بالتساهل مع المواطنين الفرنسيين والبلجيكيين من الشباب بالسماح لهم بأن يذهبوا إلى (الجهاد) ضد (الطغاة) في سوريا وفي ليبيا وفي العراقǃ فمن يسمح لمواطنيه بأن يمارسوا (الجهاد) ضد دول أجنبية عليه أن يستعد لاستقبال هؤلاء الجهاديين ضد بلده. حدث هذا لكل الدول التي ساهمت في تمويل وتدريب الجهاديين في أفغانستان في الثمانينات ضد الروس. فكانت أحداث نيويورك في سبتمبر 2001 على يد الجهاديين الذين كونتهم أمريكا ومولتهم السعودية لضرب الروس في بلاد الأفغان؟اليوم الفرنسيون يدفعون الثمن لأنهم سمحوا لأبنائهم بأن يذهبوا للجهاد في سوريا، كما ذهب جهاديو تونس وليبيا وعادوا إلى بلدانهم ليفعلوا ما يفعلون بأمن هذه البلدان الآن.فرنسا التي تضرب داعش بالطائرات، هي فرنسا التي تسمح أو تسكت أو تتواطأ في إرسال أبنائها للجهاد في صفوف داعش!شيء جميل الآن يتبلور في فرنسا وهو الإحساس العميق بأن سبب ما تتعرض له فرنسا هو اجتياحها بأمواج الفساد الديني والسياسي وحتى الأمني! فرعاية فرنسا وغيرها من البلدان الغربية للمفسدين والقتلة من الطرفين المتصارعين على السلطة في البلدان العربية، هي التي أدت إلى ظهور مثل هذه المجازر في قلب باريس، والتي تشبه مجازر بن طلحة والرايس في الجزائر والتي حدثت قبل 20 سنة.ينبغي أن تصبح فرنسا وأوروبا خالية من التطرف الديني.. لكن ينبغي أيضا أن تصبح خالية من الفساد الذي يمارس في البلدان العربية ويهاجر إلى أوروبا للاحتماء بها.. فالفساد فساد والتطرف تطرف مهما كان مصدره وجنسيته.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات