+ -

تطالعنا الأخبار هذه الأيّام بجرائم يرتكبها بعض الأقارب نحو أقاربهم كقتل الأخ لأخيه والابن لأبيه والحفيد لجدته، جرائم يندى لها الجبين، يحرم ارتكابها في حقّ الأباعد فكيف إذا كانت موجّهة للأقارب الّذين أُمِرنا بأن نصلهم ونحسن إليهم ونبرهم ونقوّي وشائج العلاقة بهم. لقد أمر الله بالإحسان إلى ذوي القربى وهم الأرحام الّذين يجب وصلهم، يقول الله جلّ وعلا: {وَاتَّقُواْ ٱللهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ} النّساء:1، أي: اتّقوا الأرحامَ بصلتكم لها. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} البقرة:83. وقال سبحانه: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} البقرة:215.ووردت أحاديث كثيرة فيها الأمر بصِلة الرّحم وبيان ثواب الواصل والنّهي عن قطيعة الرّحم وبيان عقاب القاطع منها، ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”الرّحم معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني وصلهُ الله، ومَن قطعني قطعه الله”. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”مَن سرّهُ أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثرة فليصل رحمه”.ولا خلاف بين العلماء أنّ صلة الأرحام واجبة وقطيعتها معصية من كبائر الذّنوب، وكيف بالّذي يعتدي على أقاربه وقد يصل به الأمر إلى قتلهم، فبكلّ تأكيد أنّ ذنبه مضاعف وأنّه ارتكب كبيرة من الكبائر العظمى، حيث اجتمع فيها القتل أو الاعتداء وقطع الرّحم التي أمر بوصلها.إنّ صلة الرّحم تعني الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم ودفع ما أمكن من الشرّ عنهم، وتتمثل في الإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم والوقوف معهم في شدائد الأمور وزيارتهم والتحسُّس لمشاكلهم والسّؤال عنهم والاهتمام بشأنهم وإظهار المحبّة والشّفقة والرّحمة بهم. لكن قد يحول دون صلةَ الرّحم بعضُ العوائق، إمّا شحناء في النّفوس أحيانًا، واختلاف في وجهات النّظر أحيانًا، والشحّ والبُخل والحسد وعدم الاحترام المتبادل بين أفراد العائلة، ربّما أدّى ذلك كلّه إلى التّقاطع، والسّعي بالنّميمة لأنّها تُفسد بين النّاس، يأتي لهذا القريب وينقل له كلامًا من قريب آخر يسبّب هذا النّقل تغيّر الوُد بينهما.وقد يكون من الأسباب المعاملات المالية، وقد تكون المؤثّرات أحيانًا إمّا من قبل الزّوجة، فتحمل زوجَها على البُعد عن أرحامه وقطيعة رحمه، وتحسِّن له السّوءَ، وتنقل كلَّ خطأ قاله الرّحم أو فعله، لتبعد زوجَها عن رحمه، وتحول بينه وبين رحمه، فتقول: رحمُك وأقاربك قالوا: كذا، قالوا: كذا، فعلوا كذا، قالوا: كذا، لماذا؟ تريد أن تجعلها وسيلةً للحيلولة بين الإنسان وبين رحمه، ولكن المؤمن الّذي يخاف الله ويتّقيه يتغلَّب على تلك النّزعات الشّرِيرة، ولا يُصغي إليها، ولا يقيم لها وزنًا، ويتحمَّل كلَّ المشاق؛ لأنّ صلته لرحمه لا يُريد بها جزاءً منهم، ولا ثناءً منهم، إنّما يريد من صلة رحمه قربةً يتقرَّب بها إلى الله، طاعةً يطيع الله بها، عملاً صالحًا يرجو من الله المثوبة عليه في الدّنيا والآخرة، ولذا يقول المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: ”ليس الواصل بالمكافئ، إنّما الواصل الّذي إذا قطعت رحمه وصلها”.جاء رجل للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، إنّ لي رحمًا أصلهم ويقطعونني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”إنْ كنتً كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ، وهو الرماد المحترق، ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك” أي: لا يزال معك عونٌ وتأييد من الله لك على فعلك الطيب، حيث قابلتَ القطيعة بالصّلة، والإساءةَ بالإحسان، والجهلَ بالحلم.ولصلة الرّحم فوائد فهي سبب لصلّة الله للواصل، وهي سبب لدخول الجنّة، ففي الحديث المتّفق عليه عن أبي أيّوب الأنصاري أنّ رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عمل يدخله الجنّة ويُباعده من النّار، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”تعبّد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصّلاة وتؤتي الزّكاة وتصل الرّحم”. وعن عبد الله بن سلام قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: ”يا أيّها النّاس أفشُوا السّلام وأطعموا الطّعام وصِلوا الأرحام وصَلّوا باللّيل والنّاس نيام تدخلوا الجنّة بسلام”.وصلة الرّحم أفضل أخلاق أهل الدّنيا والآخرة، فعن عقبة بن عامر أنه قال: لقيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبدرتُه فأخذت بيده وبدرني فأخذ بيدي فقال: ”يا عقبة ألاَ أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدّنيا والآخرة تصل مَن قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك ألا ومَن أراد أن يمدّ له في عمره ويبسط في رزقه فليصل ذا رحمه”. كما أنّ صلة الرّحم تثمر الأموال وتُعمِّر الديار، فقد روي: ”بأنّ صلة الرّحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”.أمّا الأمور المعينة على الصلة فهي معرفة ما أعدّه الله للواصلين من ثواب وما توعّد به القاطعين من عقاب، وبأن نُقابل الإساءة منهم بالعفو والإحسان والتّواضع ولين الجانب، والتّغاضي والتّغافل، فلا نتوقّف عند كلّ زلّة أو عند كلّ موقف ونبحث لهم عن المعاذير، وأن نحسن الظنّ فيهم.كلية الدراسات الإسلامية / قطر

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات