فتح الأستاذ عبد القادر رمضاني بيته وقلبه لقرّاء “الخبر”، وهو في عقده الثامن لا يزال مهموما ومهووسا بتاريخ ثورة التحرير المباركة في منطقة بني وعزان ببلدية عمير في ولاية تلمسان. منطقة وعائلة لم تنل حظّها من الاعتراف والتبجيل في الأوساط الرسمية رغم جسامة التضحيات التي قدمتها. الأستاذ عبد القادر الذي قضى مسيرة 36 سنة في قطاع التربية والتعليم بعد الاستقلال، يتحدث في هذا اللقاء عن ظروف اختطاف والده وشقيقه من قبل قوات الاستعمار الفرنسي، ويتحدث عن التصفيات السياسية التي وقعت أثناء الثورة بدواع تنظيمية، كما حمّل منظمة المجاهدين مسؤولية كتابة التاريخ.عاد بنا الأستاذ رمضاني من زاوية في بيته بقرية غوليماس بريف تلمسان إلى أربعينيات القرن الماضي، حيث كان والده الشهيد رمضاني امحمّد من أنصار الحركة الوطنية والإصلاحية بمنطقة بني وعزان، وكان رفقة الحاج بوزيدي الوحيدين اللذين رفضا المشاركة في الانتخابات التي نظمها الاستعمار الفرنسي سنة 1947، وترشّح لها “القايد” بوهراوة الذي كان برتبة “باشاغا”، وكان يتخذ من قصر حنّون قرب قرية الغناينة مقرا له. هناك، يقول عبد القادر، كان يلتقي أعيان عرش بني وعزان في المناسبات، ومنها الانتخابات، وقد سجّل الباشاغا بوهراوة هذا الموقف على الوالد رحمه الله، ويقول “في بداية الخمسينيات جاءتني فكرة السفر إلى مصر لمواصلة دراستي في القاهرة، وكان استخراج جواز السفر يقتضي موافقة القايد قبل قرار السلطات الاستعمارية، طلبت من والدي الحديث مع بوهراوة، فكان ردّه بالحرف الواحد: إلاّ القايد بوهراوة! لن أطلب منه خدمة ما حييت”، وطلب مني والدي أن أقصده بنفسي إن رغبت في ذلك، وفعلا اتصلت به فكان جوابه: الحاج رمضاني وأبناؤه، راني ضارب عليهم بالأحمر..! وعندها فهمت لماذا كان والدي يكره فرنسا وأذنابها”.من حلم السفر إلى القاهرة إلى مدينة ابن باديس “ولأن الوالد رحمة الله عليه كان يقدم اشتراكا شهريا ضمن المساهمين في بناء دار الحديث بتلمسان ما بين 1934-1937، وكان قريبا من الوسط الحضري بالمدينة التاريخية، فقد سجلني في الكشافة الإسلامية الجزائرية بفوج الأسد سنة 1951. وأتذكّر استعراضا كشفيا قمنا به رفقة عناصر كشفية من فوج قرية العباد، انطلق من قرب ثانوية مليحة حميدو وسط المدينة إلى السور وباب سيدي بومدين، في استعراض أدهش المعمّرين وحتى المواطنين.. ومن الفوج الكشفي كان حبّ دراسة العربية يشغلني، فبعد فشل محاولتي الالتحاق بالقاهرة سافرت إلى قسنطينة بشرق الجزائر، ودرست في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان الحاج والأستاذ بنوار عميرات أطال الله عمره رفيقي في الدراسة بمدينة الشيخ عبد الحميد بن باديس”.بداية البداياتسألته “الخبر” “أين كنت يوم الفاتح من نوفمبر 1954؟”، فأجاب عبد القادر رمضاني “وهل يمكن نسيان مثل ذلك التاريخ؟ كنت يومها طالبا بالمعهد الإسلامي في قسنطينة، وأتذكّر جيّدا أن أحد الزملاء في الدراسة، وهو المدعو محمد علي غزالي، جاءنا في الصباح يحمل جريدة (لاديباش) وهو يرقص مبشّرا باندلاع الثورة، وكان يوما سعيدا بالمعهد.. أخبار البيت كانت تصلني بالرسائل، ولم أزر العائلة إلا في صائفة 1955، حين نزلت في عطلة مدرسية شهر جويلية، وبالبيت كانت الأجواء توحي بالانخراط المبكّر لأفراد العائلة في صفوف الثورة. وفي دارنا بالدشرة التقيت بقائد محلي من ناحية صبرة، وطلب مني الخروج معه لتنصيب خلايا جبهة التحرير الوطني، وكان والدي قد انضم إلى خلايا العمل المسلّح وشارك في حرق بعض مزارع المعمّرين، مثل مزرعة اليهودي بن زاكي ومزرعة نيكولا قرب قرية الغناينة ومزارع شابي ومرط وكماتشو، في عمليات أربكت سلطات الاستعمار في المنطقة، فبدأت عملية البحث عن المنفذين”. يتنهّد الأستاذ عبد القادر رمضاني ثم يضيف، كل هذه العمليات كانت تنطلق من دشرة اولاد رمضان، وقد بلّغ أربعة من الخونة على الوالد أمام الجهات الاستعمارية.. قاطعناه “هل تعرف أسماءهم؟”، أجاب “وما الفائدة؟”، قلنا له إنّه التاريخ الذي تطالبون بكتابته، ليفرغ ما بجعبته وبحضور أحد أبنائه، مع طلب التحفظ على ذكر الأسماء “إنهم أربعة.. ثلاثة منهم توفوا.. اثنان تحصّلوا بعدها على شهادة مجاهد، وأحدهم وشّح برتبة ضابط في جيش التحرير. وبعد عمليات حرق المزارع اعتقل والدي في مداهمة مروّعة للدّشرة هو وأخي محمد، وكان عمره 17 سنة، وتمّ اقتيادهما إلى مزرعة شابي أين عُذّبا عذابا شديدا، ومن يومها لم نسمع عنهم أي خبر ولا نعلم قبريهما إلى يوم الناس هذا.. عدا نقش اسميهما على لوحة رخامية بمدخل مدرسة دار الحديث بتلمسان”.“صوّر اللوحة الرخامية وضعها في ملف عضوية منظمة المجاهدين”ويضيف عمي عبد القادر “ويوم كنت بصدد إعداد ملف طلب شهادة العضوية في الثورة، قال لي مسؤول بمنظمة المجاهدين: صوّر لوحة دار الحديث الرخامية وضعها في الملف! وهو تصرف فيه رعونة من مسؤول في منظمة يفترض أنها تحمي ذاكرة المجاهدين والشهداء، يحدث هذا في الوقت الذي سلّمت شهادة المشاركة في الثورة لحركى وخونة”. عدنا لسؤال الشيخ عبد القادر “وأين كنت يوم اعتقل والدك وشقيقك؟”، ليجيب “وقعت هذه الأحداث سنة 1956، وأنا كنت قد رجعت إلى قسنطينة بعد عطلة جويلية 1955، أتذكر أنني رأيت رؤيا عجيبة ذات يوم وأنا نائم بمرقد المعهد الإسلامي، حيث نهضت فزعا باكيا قبل الفجر، وقد رأيت في المنام قصّة استشهاد الوالد كاملة ولمّ يأتني بعد الخبر، والحاج بونوار عميرات لازال حيّا وكان شاهدا على الحادثة، وبعد أسابيع جاءتني رسالة من فرنسا أُخبرت فيها بوفاة الوالد والأخ، فقرّرت العودة إلى الدشرة لرؤية الوالدة، وبالدوّار جاءني بعض قيادات الثورة مثل سي بن عودة وأحمد بلمدني المدعو لانتريتي، زيارة كانت للمواساة والتعبئة والتنظيم، كنا على مشارف سنة 1957، كانت الثورة تتوسع بالمنطقة فكانت معركة أمّ العلو التي نجا فيها القائد سي جابر رئيس المنطقة، ليستشهد بعدها بجبل تاقمة. وبعد أيام عقدت قيادة المنطقة اجتماعا طارئا ببيتنا وحضره الشهيد ددوش عبد القادر المعروف بسي فالح من منطقة بن سكران، وأحمد المدني وسي بن عودة الحاج ميمون موسى، والحاج عبد القادر رحماني المعروف بوشويشة ويسكن بمدينة بن سكران وهو حافظ لكتاب الله ولا يزال على قيد الحياة، كان شاهدا على الاجتماع وكان مكلّفا بالحراسة خارج الدّار، وقد حدث بيني وبين الشهيد فالح نقاش حاد حول وضعية الثورة وتراخي قادة العروش في دعمها، وكان رأي الشهيد فالح تصفية المتخاذلين، فأقنعته بالعدول عن الفكرة، لأن الثورة قد تخسر الدعم الشعبي في حالة تصفية قادة العروش والقبائل من المتخاذلين، وفي نهاية الاجتماع طلب مني الشهيد والقائد سي فالح ضرورة الصعود للجبل، فوافقت في الحال وتركت الوالدة تبكي بعد أن فقدت الزوج والولد، وكانت أوّل مسؤولية أسندت إلي هي متابعة جمع التبرعات والانخراطات لدى سكان وقرى المداشر المجاورة، وبعد 7 أشهر من النشاط السري شاركت وحضرت في عمليات كثيرة، مثل عملية جبل الزروالي التي سقط فيها 7 شهداء قرب مغارة قرية العزايزة، وشاركت في عملية قنطرة الحديد قرب بلدية سيدي العبدلي، لأعود إلى النشاط المدني متخفيا بالنشاط الفلاحي وخلافة والدي في خدمة الأرض، وكان ذلك بترخيص من الشهيد فالح، وكانت بحوزتي قوائم المنخرطين والمتبرعين، وأذكر أن من نساء العرش من تبرّعت بالمجوهرات كالخاتم واللويزة، وكانت معاناتنا في جمع الدواء حين تطلب منا قيادة الثورة ذلك، فكنت أجوب عيادات تلمسان الخاصّة وصيدلياتها التي كانت في أغلبها ملكا للمعمّرين، فكان عادة ما يكون مصيري الطرد من العيادة، وأتذكر أنّه ذات يوم وجدني أحد زملائي القدماء في الكشافة أحمل وصفة دواء أمشي مهموما في شوارع المدينة أبحث عن الدواء الذي طلبته قيادة الثورة، فأخذ مني الوصفة وقال لي “في المساء ستجد الدواء عند الحلاق بالقرب من قهوة لاغا بحي المدرس الشعبي. هكذا كان النضال سريا وصارما وعن قناعة وإيمان، وتواصل العمل إلى غاية استرجاع الاستقلال”.حلم الاستقلال وبصيص أمل عودة الوالد والشقيقويضيف مضيفنا “وحينها كان للعائلة بصيص من الأمل في عودة الوالد وإطلاق سراحه هو وأخي محمد، ولكن هذا لم يحدث، واستمرت الحياة”، وانخرط سي عبد القادر في أول قسمة لجبهة التحرير الوطني بمنطقة بني وعزان في جزائر الاستقلال، واشتغل في التدريس والتربية على مدار 36 سنة إلى غاية إحالته على التقاعد، كما انتخب في المجالس البلدية في بن سكران وعمير لمدة 3 عهدات، وعهدة واحدة بالمجلس الشعبي الولائي. “وما يحز في نفسي إلى اليوم أنه في سنة 1962 سلّمت لي شهادة اعتراف كمناضل غير مداوم، وبالمناسبة لم أكن أبحث عن شهرة أو متاجرة بشهادة الاعتراف التي استغلّها البعض للأسف كسجّل تجاري”.وعند سؤالنا له عن من يراه المسؤول عن ملف كتابة تاريخ الثورة قال “المسؤولية كاملة تتحمّلها المنظمة الوطنية للمجاهدين”، مؤكدا “أقول المنظمة وليس الوزارة لأن الوزارة جهاز إداري، أمّا المنظمة فبحكم أنّ أبناءها يفترض أنّهم كانوا في ميدان العمل الثوري المسلّح والسياسي المدني، وهم يعرفون حقيقة ما حدث أثناء الثورة، يعرفون الحركي من المجاهد، فمثلا معركة مزرعة الوالد الشهيد رمضاني، شابي سابقا، هي معركة كبيرة وبطولية لثوار جيش التحرير، وتم خلالها أسر كتيبة كاملة من الجيش الفرنسي، مثلها مثل معركة الخميس في منطقة الطرايفة التي تم فيها إسقاط طائرة للعدو وقتل المئات من جنوده، معارك وقصص بطولية لم تنل حقها من طرف المسؤولين عن كتابة تاريخ الثورة، مسترسلا “للأسف الكثيرُ من المجاهدين والمخلصين تمّت تصفيتهم إبان الثورة ظلما، فالسياسي المحنّك والمجاهد الراحل خليل رئيس بلدية تلمسان في السبعينيات كان يقول لي مثلا إن المرحوم عبد الوهاب بن عصمان الذي قدّم خدمات جليلة للثورة وكان من السبّاقين في الحركة الوطنية بمدينة تلمسان، تمّت تصفيته لدواعٍ انضباطية، وقد كان خطأ كبيرا بحسب المرحوم خليل، وربّما غيره كثيرون تمّت تصفيتهم لأسباب سياسية وبسبب أفكارهم ومواقفهم من الثورة وقياداتها، مثل عبد الرزاق بختي، والمختار بوزيدي المعروف بعقب الليل، والذي حوكم محاكمة صورية على التراب المغربي وتمّت تصفيته وإلقاء جثّته على الحدود الغربية.الشيخ عبد القادر رمضاني قال إنّه في أرذل العمر هذا لا يريد مطامع دنيوية غير أمنيته في أن يكتب تاريخ الثورة في المنطقة بإنصاف وعدل.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات