+ -

يقول الحقّ سبحانه: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}، إنّ هذه الآية الكريمة جاءت بعد تطواف طويل في السّورة في عدد من أصحاب الجرائم والمعاصي، فتحدّثت الآيات الّتي قبلها عن الّذين أنكروا الوحي والنُّبوَات: {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}، وكتموا الحقّ الّذي اؤتمنوا عليه، وزعموا أنّ الله تعالى اختارهم واصطفاهم، فكذّبهم الله وزيّف ادّعاءهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.❊ وردت هذه الآية بعد ما ذكر الله الّذين اتّخذوا من دونه أندادًا: {وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ}، كما جاءت هذه الآية الكريمة بعد ذكر أولئك الّذين ادعوا أنّه متَى جاءتهم الحُجَج البيِّنة آمنوا بالله: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، وجاءتهم الفرصة فعلاً فأعرضوا عنها، فعاقبهم الله عزّ وجلّ بأن حال بينهم وبينها، وجعل أفئدتهم وأبصارهم زائغة لا تستقرّ على حال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}، أي: مختلط مضطرب، أمّا أولئك الّذين أسرعوا للإيمان فهم أهل التّقوى والصِّدق، وأهل النَّقاء والنّظافة في قلوبهم، ما حال بينهم وبين الإيمان كبر ولا غطرسة ولا أنَفَة في قلوبهم، ولا تعاظم في نفوسهم، وما قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، بل قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، ووردت هذه الآية أيضًا بعد ذِكر الّذين يتمرّدون على شريعة الله، ويعاندونها بالباطل، يُجلبون في وجه الحقّ بشُبهات من عندهم، يزخرفونها بجميل القول وحسن العبارة، ويأتون بالقانون المعارض لشرع الله تعالى، وبالهوى المعارض للحقّ، ويلبسون به على النّاس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}.وبعد هذه المواضيع الّتي سبقت هذه الآية: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، بيّن الله أنّ كلّ تلك المخالفات والمعاصي داخلة في ظاهر الإثم وباطنه. يقول ابن القيّم رحمه الله ما خلاصته: إنّ العبد لا يستحقّ اسم التّائب استحقاقًا كاملاً تامًا إلاّ إذا ترك جميع المحرّمات الّتي نهى الله تعالى عنها، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمحرّمات اثنا عشر جنسًا هي: الكفر، والشِّرك، والنِّفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله تعالى بغير علم، واتّباع غير سبيل المؤمنين. ثمّ قال رحمه الله: فهذه عليها مدار ما حرّم الله عزّ وجلّ، وعامة الخلق يرجعون إليها ويقعون فيها، إلاّ من عصم الله جلّ وعزّ من أتباع الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، وقد يكون في الرجل أكثرها، أو أقلها، أو خصلة منها، وقد يعلم ذلك أو لا يعلمه. انتهى كلامه.فينبغي أن نعلم هذه الأصول من المحرّمات، وأن نعلم أنّ من أعظم ما جاءت به الرّسل النّهي عن هذه المحرّمات، والتّحذير منها بكافة الوسائل والطّرق، فالآية أمرت بترك الإثم، وهو المعصية الّتي توجب الإثم، وإنّما سمّيت المعصية إثمًا لأنّها سبب في الإثم الّذي يلحق العبد، ولهذا سمّى العرب الخمر إثمًا، كما قال شاعرهم:شربتُ الإثم حتّى ضلّ عقليكذاك الإثم تذهب بالعقولوإنّما سمّيت الخمر إثمًا لأنّها سبب في الإثم، أو داعية إليه، فالمقصود بالإثم الظّاهر والباطن معصية الله تعالى في السرّ والعلانية، وعبارة المفسّرين كلّهم تدور حول هذا المعنى، وهي أنّ الآية قسّمت الإثم إلى قسمين؛ الأوّل: إثم ظاهر يراه النّاس بعيونهم، أو يسمعونه بآذانهم ويعرفونه، والثاني: إثم باطن لا يعلمه إلاّ الله تعالى، أو لا يعلمه إلاّ القليل من النّاس، ثمّ توعّد الله تعالى الّذين يكسبون الإثم أن يكون كسبهم للإثم خسارة عليهم يوم الحساب: {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}، أي: من الجرائم والآثام، متى؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}.فظاهر الإثم: علانيته، كالمجاهرة بالمعصية وإعلانها على الملأ: “كلّ أمّتي مُعَافىً إلاّ المجاهرين” أي: المعلنين بالمعاصي الّذين لا يستترون بها، فتنتقل المعصية إلى المجتمع كلّه، فيتنفّسها النّاس في الهواء، ويشربونها مع الماء، أمّا الباطن وهو السرّ والخفيّ فكثير، والضّابط فيه ما ورد في الصّحيح من حديث النّواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البرّ والإثم، فقال: “البرّ حُسن الخُلُق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه النّاس”، فالمؤمن يكره أن يطّلع النّاس على الإثم بفطرته وطبيعته، لأنّه يعلم أنّ النّاس يعيبون ذلك ويسترذلونه ويذمونه، والمقصود بالنّاس المؤمنون الأتقياء الّذين يذمّون الباطل وينكرونه، ويعرفون المعروف ويأمرون به.إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات