"حسـابات شخصـية وراء"التخـوين"

ما هي مقاربتك للجدل الذي يثار حول التهم التي يتبادلها البعض بشأن “الخيانة” أو العمالة لفرنسا؟ هذه تجاوزات في حق الثورة التحريرية وجدل عقيم منبثق من تصفية حسابات بين أشخاص جمعهم التاريخ وفرقتهم الدنيا، إسقاطاتها جسيمة على الأجيال الصاعدة، تربك النفوس وتصيب في الصميم مصداقية أجيال من رجال ارتبط اسمهم بالكفاح المسلح، الكثير منهم استشهدوا.هل هو مقصود، بمعنى أنه مبرمج ومنظم؟ .. لا أبدا، من يغوص في تاريخ الثورة التحريرية يقف على كثير من المناحي الخفية اللصيقة بالجنس البشري مثل التعفّف، النزاهة، الشجاعة، التضحية في سبيل الجماعة وأضدادها مثل الغيرة، الحسد، حبّ النفس، الأنانية، الخوف من الموت الخ. هناك عوامل أخرى ينبغي أخذها في الحسبان مثل الانتماء الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي والجهوي وقدرة المجاهد من عدمها على الاندماج في الحياة الشاقة التي يفرضها الكفاح المسلّح الخ. وكلها لم تنل حقها من الدراسة السوسيوتاريخية. هذه العوامل وغيرها لعبت دورا مهما في مسيرة الثورة التحريرية. حان الوقت لنخرج من الخطاب الأحادي الاتجاه الذي يقدّس الثورة التحريرية والثوار إلى درجة الألوهية، فتمحى الجوانب الإنسانية للثورة والثوار بشكل آلي ودون أن نشعر بذلك. هنا يكمن المشكل. سيبقى الحال على حاله ما لم نتخلّص من هذه المقاربة القدسية التي تفتح الباب لكلّ الانحرافات التاريخية بل الأخلاقية ولا تخدم على الإطلاق لا أصحابها ولا تاريخ الجزائر، وتقوي شوكة المشككين وتجعل الأجيال الحالية التي لم تثق لا في التاريخ ولا في الدولة تنساق وراء هذا الخطاب. فبدل السعي إلى ترسيخ ثقافة التسامح والانفتاح على الغير، والارتقاء بالأنا الجماعي إلى ما هو أفضل وأسمى، تزيدنا مثل هذه التصرفات العقيمة ابتعادا عن المعرفة التاريخية الموضوعية وتعمّق الهوة بين الدولة كمؤسسة غير تابعة للأشخاص والمجتمع الذي هو في حيرة من أمره. غير أنه وفي قراءة عكسية لهذه التصريحات، فإن هذه التجاوزات في حق الثورة ومثيلاتها تفتح آفاقا بحثية جديدة أمام المؤرخين وعلماء الاجتماع والنفسانيين لأنها تجعلهم يلمسون بقوة، أولا: مدى هشاشة البناء الوطني وهشاشة التاريخ الرسمي المبني على إنكار الخصوصيات التي أحسن استثمارها عدد من منظري الثورة أمثال عبان رمضان والعربي بن مهيدي لبناء قاعدة اجتماعية وأيديولوجية صلبة لم تتصدع رغم الهزات العديدة التي عرفتها الثورة.ثانيا: سوسيولوجيا، فإن التركيبة البشرية للثورة بمختلف مكوناتها وحساسياتها، ما هي إلا صورة مصغرة للمجتمع الجزائري ككل. السؤال الذي يطرح نفسه، ما مدى تأثير التغييرات التي أفرزتها الثورة أثناء مسيرتها على ذهنية المجتمع الجزائري؟ ثالثا: وربما بهذا أردّ بشكل غير مباشر على سؤالكم: ماذا تبقى من الرصيد الثوري لهؤلاء الثوار وللثورة؟ .. هناك ظاهرة أخرى أثرت سلبا على مجرى الثورة، امتدت آثارها إلى ما بعد استعادة السيادة الوطنية، بل مازال البعض منها قائما لحدّ الساعة. من المفارقات أن بعض مفجري حرب التحرير الذين ثاروا ضد تقديس الشخصية والزعامة التي كان يمثلها الحاج مصالي والتي حاربها مؤتمر الصومام، اعتبروا أنفسهم هم الثورة ولا ثورة دونهم، فمارسوا ويمارسون من خلال ما ورثوه من ذهنيات تعشش في مختلف أجهزة السلطة بمفهومها العريض، نوعا من الأبوية التي تكتسي أحيانا طابعا تعسفيا بأبعاده التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.بناء على متابعتك الدقيقة لمجريات الثورة، هل كان خطاب التخوين أكثر حدة بعد الثورة أم أثناءها أم قبلها؟ تكمن قوة الثورة في سرّيتها أولا وثانيا في قدرتها على إخفاء وطمس الخلافات التي ظهرت هنا وهناك في فترات مختلفة، سواء في صفوف جيش التحرير الوطني أو جبهة التحرير التاريخية أو الحكومة المؤقتة.. تمت معالجة ما سمي بالحركات المناوئة من بينها التخوين بصمت مع استخدام القوة وأحيانا دون أن تكون حينها الدوائر المختصة على علم بذلك. أحسن مثال هو مقتل عبان رمضان في ضاحية تيطوان المغربية باسم الثورة من طرف الثورة. دون أن نخوض في هذا الموضوع الذي هو نقطة سوداء في تاريخ الثورة، من حقنا أن نتساءل عن أثر الهزة حتى لا أقول التسونامي الذي كاد يحدثه هذا الخبر وسط قيادات الولايات والقيادات السياسية، بل والمجاهدين البسطاء والمناضلين لو وصل مسامعهم في اللحظة نفسها. يبدو أن فرحات عباس أصيب بأزمة نفسية حادة عندما علم بالخبر. أكيد أن الثورة كانت تأخذ اتجاها آخر غير الذي عرفته. هذه الحادثة وغيرها كتلك التي تشيرون إليها، لم تصل آذان المواطنين إلا بعد مدة حتى وإن وصلت مسامع من كانوا في الميدان في وقتها أو بعد حدوثها بقليل.  لا شكّ أنكم تشيرون إلى التراشق الكلامي الذي روّجت له الصحف الوطنية قبل أكثر من أسبوع.. الموضوع قديم جديد. عاب بعض ضباط جيش التحرير الوطني ممن كانت لهم صولات وجولات في ميدان الجهاد، على الرئيس الراحل هواري بومدين احتضانه وتنصيبه عددا من قادة جيش التحرير الوطني ممن فرّوا من الجيش الفرنسي والتحقوا بالجبهة على رأس الجيش الوطني الشعبي. كانت هذه الأصوات خافتة لأن بومدين كان الكلّ في الكلّ، ثم إن بعض الذين روّجوا يومها لهذا الخطاب، استخدموه في معارضتهم السياسية والعسكرية لبومدين. بقي هذا الخطاب على حاله، حسب ما أعلم، في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد ولأسباب أمنية ومقتضيات الساعة اختفى أثناء عشرية الدم ليطفو اليوم على الساحة الإعلامية.للتاريخ وللتاريخ فقط، ودون أن نخوض في العوامل النفسية والموضوعية التي حركت ألسنا كانت ساكنة في عزّ قوتها وسطوتها، نشير إلى أن أكثر من خمسين عسكريا جزائريا، حسب بعض المراجع، كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي التحقوا ما بين 1956 و1960 بصفوف جيش التحرير الوطني. منهم من تخرج من المدرسة العسكرية بشرشال (عبد الله العرباوي، كان متخصصا في المتفجرات) ومنهم من تخرّج من مدرسة “سان سير”، ومن تخرّج من مدرسة الطيران الحربي بفرنسا (سعيد آيت مسعودان) ومنهم تم تسريحهم من الجيش الفرنسي غداة هزيمة فرنسا في الهند الصينية وبعضهم التحقوا بطلب من خلية لجبهة التحرير كانت تنشط في مدينة بون الألمانية.تقصد أن هؤلاء لا يمكن التشكيك في وطنيتهم، ولكن لماذا ظلت شبهة “العمالة لفرنسا” تلاحقهم؟ .. يعيدنا هذا السؤال إلى التصنيف الذي تحدثنا عنه آنفا. مجاهدون من الدرجة الأولى ومجاهدون من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة إلى أن نصل إلى المجاهدين الذين وصفوا من طرف من سبقهم في الميدان بــ”حـزب فرنسا”. هذه التهمة، إلى أن يثبت العكس ويقدم أصحابها دليل الخيانة، فرقت ومازالت لحدّ الساعة تفرق الجزائريين الذين لم يدخلوا في الصف كما كان يقال في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بل حتى الآن. إنها تدل على العجز الفادح للمؤسسات التي يسوق باسمها مثل هذا الخطاب وشللها في تطوير مفاهيمها وتقديم تصورات جديدة تواكب التغييرات التي يعرفها يوميا المجتمع الجزائري والعالم الذي لا مستور فيه.  وحتى أردّ مباشرة على سؤالكم، أقول هل نشك في وطنية بن شريف الذي عذب عذابا حتى الموت؟ هل نشك في آيت مسعودان وعبد المجيد علاهم ومحمد علاهم وزقيني وشابو ومحمد العماري ومصطفى شلوفي وغيرهم. لا ينبغي أن تحجب عنّا الامتيازات التي كانت من نصيبهم أو تحصلوا عليها من غير حقّ أحيانا، لدورهم التاريخي، كما أنه لا ينبغي أن يكون ذلك عنوانا لسجل تجاري مفتوح لهم ولذويهم، وأخيرا وليس آخرا لا ينبغي أن يذهب أهل الفكر والمعرفة وأصحاب الرأي ضحية الإشاعة العدوّ الأول للمعرفة الرصينة ودعامة لكل مؤسسة قوية دائمة.