+ -

إنّ المتأمّل في حال المسلمين، وما هم عليه من الآفات والفتن ومن انفتاح كبير على الدّنيا وزخرفها حتّى ظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها، ليشعر بالرّهبة والإشفاق والخوف الشّديد من مظاهر وعواقب هذه الحال؛ إذ قد قست منّا القلوب، وتحجَّرت العيون، وهُجر كتاب علاّم الغيوب، بل قُرئ والقلوب لاهية ساهية، في لُجج الدّنيا وأوديتها سابحة، كيف لا وقد زيَّنَّا جدران بيوتنا بآيات القرآن، ثمّ لم نُزيّن حياتنا بالعمل به، يقرؤه البعض منّا على الأموات، ثمّ لا يحكمونه في الأحياء. لذا كان لابدّ من الوقوف على بعض مشاهد الحسرة في الأخرى، لعلّ النّفوس تستيقظ وتخشع وتذلّ فتبادر إلى الحُسنى، فلا أمر أشدُّ دفعًا للنّفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يدي من له الأولى والآخرة، فكلّ ضعف من أسبابه الغفلةُ عن الآخرة، فذكر اليوم الآخر يطهر القلوب، وذكره يهدّد الظَّلَمَة فيرعووا، ويعزي المظلومين فيسكنوا، فكلّ سيأخذ حقّه لا محالة.إنّ يوم الحسرة يوم أُنذر به وخُوِّف، وتُوعِّد به وهُدِّد: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} إنذار وإخبار في تخويف وترهيب بيوم الحسرة حين يُقْضَى الأمر، يوم يُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، يُسألون عن أعمالهم، فمن آمن واتّبع سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، ومن تمرَّد وعصى شقي شقاء لا يسعد بعده أبدًا، وخسر نفسه وأهله، وتحسر وندم ندامة تتقطّع منها القلوب، وتتصدّع منها الأفئدة، ورد في الصّحيح أنّه يُجاء بالموت كأنّه كبش أملح، فيوقف بين الجنّة والنّار، فيقال: يا أهل الجنّة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبُّون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، ثمّ يقال: يا أهل النّار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبُّون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيُؤمَر به فيذبح، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة، خلود فلا موت، ويا أهل النّار، خلود فلا موت.فمن هذه الحسرات الحسرةُ على أعمال صالحة شابتها الشّوائب، وكدَّرتها مبطلات الأعمال من رياء وعُجْب ومِنَّة، فضاعت وصارت هباءً منثورًا، في وقتٍ الإنسانُ فيه أشدُّ ما يكون إلى حسنة واحدة، ومنها الحسرة على التّفريط في طاعة الله، وتصرُّم العمر القصير في اللّهث وراء الدّنيا، حلالها وحرامها: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}. ومنها أيضًا الحسرة على التّفريط في النّفس والأهل أن تقيهم من عذاب جهنّم، يوم تفقدهم وتخسرهم مع نفسك بعد ما فُتنت بهم، ذلك هو الخزي والخسار، والحسرة والنّار: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الْذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. ومنها كذلك الحسرة على أعمال صالحة كان الأمل بعد الله عليها، ولكنّها ذهبت في ذلك اليوم العصيب إلى مَن تعدَّيْت حدود الله فيهم، فظلمتهم في مال أو دم أو عِرْض، فكنت مفلسًا حقًا: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}، فيأخذ هذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، ثمّ تفنى الحسنات، فيُطرح عليك من سيّئات مَن ظلمتهم، ثمّ تُطرح في النّار. ومنها حسرة جلساء أهل السّوء يوم انسقت معهم يقودونك إلى الرّذيلة ويصدّونك عن الفضيلة، إنّها لحسرة عظيمة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}. ومنها حسرة الظّالمين المفسدين في الأرض الّذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، حين يحملون أوزارهم وأوزار الّذين يضلّونهم بغير عِلْم: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}.ومن أعظم المشاهد المخزية حسرةً يوم القيامة، يوم يكفر الظّالمون بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}، فيا حسرة الظَّلَمَة وأعوانهم، يوم يعلمون فداحة جريمتهم. ومنها الحسرة على أموال جُمِعَت من وجوه الحرام، من ربا ورشوة وغش وغصب وسرقة وخيانة واحتيال وغيرها.أمّا الحسرة الكبرى فهي عندما يرى أهلُ النّار أهلَ الجنّة وقد فازوا برضوان الله والنّعيم المقيم: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وحسرة أعظم حين ينادي أهلُ النّار أهلَ الجنّة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِما رَزَقَكُمْ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}. وحسرة أَجَلُّ حين ينادي أهلُ النّار مالكًا: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنكُم ماكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، ومنتهى الحسرة وقصاراها حين ينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}، فيجيبهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}. فيا حسرة المقصّرين! ويا خجلة العاصين! لذَّاتٌ تَمُرُّ، وتَبِعات تبقى، نسأل الله العافية.

إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات