المرحلون يشدّهم الحنين إلى "الحومة" القديمة

+ -

تحولت الأحياء الجديدة التي رحل إليها، مؤخرا، سكان الأحياء الشعبية في العاصمة إلى فضاءات شبه خالية بسبب عزوفهم عنها خاصة الشباب الذين يفضل أغلبهم قضاء معظم أوقاتهم في أحيائهم السابقة التي ترعرعوا فيها، حيث مازال يشدهم الحنين إلى “الحومة” القديمة ويسيطر على وجدانهم، فتجدهم يقصدونها كلما سمحت لهم الفرصة، سواء باستعمال الحافلة أو بالقطار وحتى بأخذ سيارة أجرة، رافضين تغيير معالمهم القديمة، فيتخذون من سكناتهم مراقد للنوم ليس إلا، يغادرونها صباحا ويعودون إليها في ساعات متأخرة من الليل. بمجرد دخولك إلى الأحياء الجديدة لبابا علي ببلدية بئر توتة غرب الجزائر العاصمة، تنتبه لخلوها عن عروشها من الفئة الشابة وكأنك أمام دار عجزة أو منطقة مهجورة من السكان، حيث عوضت حركة الشباب والضجيج الذي لا يكاد ينقطع بالأحياء الشعبية العاصمية بسكون قاتل، فلا تجد غير الشيوخ، واقتفاء أثر الفئة الشابة أصبح شبه مستحيل حتى في الفترات المسائية.تشتت شمل العائلةاقتربنا من ثلاثة شيوخ يقطنون الحي تم ترحيلهم مؤخرا من بلدية المحمدية، وما أن فاتحناهم في الموضوع حتى استرسل العم رابح، وهو رب أسرة متكونة من شابين وفتاة، قائلا: “لم يبق في المنزل إلا الابن الأصغر وهو منشغل الآن في عالمه الافتراضي (الأنترنت)، أما شقيقه الذي يكبره فلم يألف العيش في الحي الجديد بعد، وفضل المكوث عند جدته بالحراش رفقة شقيقته المقبلة على اجتياز امتحان شهادة البكالوريا..”.يقاطعه جاره، وهو والد طالب جامعي قائلا: “ينتظر ابني عودتي من العمل يوميا لكي يأخذ السيارة ويطير بها مباشرة لملاقاة رفاقه وأبناء حيه القدامى، ولا يعود إلا في ساعات متأخرة من الليل، تاركا والدته في حيرة من أمرها تترقب عودته، وفي حال ما رفضت إعارته السيارة، فحتما سوف يتدبر أحواله ولن يبيت في المنزل”.رحلة يومية لـ”الحومة”صحيح أن هؤلاء المرحلين استفادوا من شقق لائقة تحفظ كرامتهم بل يراها البعض نعمة مقارنة بالبيوت الرثة التي كانوا يقطنوها، لكن بالمقابل وجدوا أنفسهم أمام خطر تشتت العائلة، مثلما هو الحال بالنسبة للسيد علي، أحد المرحلين من حي السعادة بالمدنية إلى الحي الجديد بسيدي محمد ببئر توتة، حيث يحاول جاهدا لمّ شمل أسرته بغض النظر عن ما يكلفه الأمر من متاعب، ولم ينعم بطعم الراحة منذ شهور جراء سباقه الماراطوني مع الزمن أثناء نقل أبنائه على متن سياراته إلى الحي القديم. وبلهجة متعبة أردف قائلا: “أخرج يوميا في الساعة السادسة صباحا رفقة أفراد عائلتي، أنقل كل واحد إلى وجهته المقصودة ومن ثمّ ألتحق بمنصب عملي متأخرا”. وتابع: “وفي المساء أقوم بنفس العملية أجمعهم الواحد تلو الآخر من المدرسة.. إلى الثانوية، مرورا بالحي القديم حيث تقطن جدتهم، ومن ثم أقطع مسافة 20 كيلومترا باتجاه البيت في حدود الثامنة مساء”.الشقاء أرحم من البقاءبحي أولاد منديل الواقع غرب مدينة بئر توتة التي تعتبر أكثر المدن استقبالا للعائلات المرحلة خلال السنوات الأخيرة، التقينا شبابا من مختلف الأعمار نزلوا لتوهم من الحافلة القادمة من ساحة الشهداء بالعاصمة. كانت الساعة وقتها تشير إلى التاسعة مساء وكان الليل في بدايته، ومن بينهم التقينا أيمن ذا 25 سنة والذي يكلف نفسه يوميا مشقة التنقل إلى قصبة العاصمة مباشرة بعد الانتهاء من عمله. يعلق أيمن ساخرا: “هذا الحي بمثابة سجن كبير بالنسبة لي... لم ولن أستطيع التأقلم هنا”. ويتابع مشيرا بيده إلى أحد أبناء حيه وهو مريض عقليا “هو الآخر يفضّل التنقل يوميا إلى العاصمة على أن يمكث هنا، ورغم أنه مريض إلا أنه على علم بأن البقاء في هذا الحي أمر مستحيل”.أما ابن حيه مسعود ذو 28 سنة، وهو كذلك أحد الشباب الذين استحال عليهم التأقلم مع جو الحي الجديد بعيدا عن قصبة العاصمة، فيرى أنه “يحاول جاهدا التعود على مشقة قطع العشرات من الكيلومترات يوميا، عوض التعود على المكوث في الحي الجديد”.من الظلام إلى الظلامواصلنا اقتفاء آثار هؤلاء الشباب الذين استحال عليهم تغيير نمط حياتهم، ومازال شوق وحنين “الحومة القديمة” يسيطر على وجدانهم. وفي محطة الحافلات بساحة الشهداء، اكتظت حافلة “إيتوزا” الأخيرة التي تنطلق في الساعة العاشرة و45 دقيقة باتجاه مدينة بئر توتة التي تبعد بـ25 كيلومترا عن العاصمة، كانت الحافلة تعج بالشباب والشيوخ من مختلف الأعمار، الذين أبوا إلا أن يكملوا السهرة بين أولاد الحومة.يقول أحد الفضوليين ممن كانوا على متن الحافلة مبتسما “أفتقد رائحة الرطوبة ونسيم البحر”. ويعقب على كلامه شاب آخر بلهجة تهكمية “صحيح أن حال الأحياء الجديدة أحسن بكثير من البيوت الهشة التي ترعرعنا فيها بحي القصبة، لكني أحن لأكل (الڤرنطيطة) وكذا الجو النشيط والفوضى التي تملأ الأسواق الشعبية..، ولا تنسى أننا نكسب رزقنا من تلك الفضاءات”.أما الطالب الثانوي محمد، صاحب 18 ربيعا، فقد خرج من المنزل الواقع بحي الشعايبية ببئر توتة أو كما يحلو للبعض تسميته “إشبيلية”، في الساعة السابعة مساء بعد أن ضاق به الحال، باتجاه حيه السابق بباب الوادي، حيث ألقى نظرة على رفاقه وأبناء حيه ومن ثم عاد أدراجه إلى المنزل على متن نفس الحافلة، كأنه أشفى غليله بتلك الزيارة القصيرة، على حد قوله.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات