38serv

+ -

يستحيل الحديث عن أعمدة الصحافة الجزائرية دون ذكر الإعلامية الراحلة أمينة بلوزداد، شقيقة الشهيد البطل محمد بلوزداد، وهي التي غادرتنا قبل أيام عن عمر ناهز 86 سنة، تاركة وراءها مشوارا حافلا بالإنجازات. أمينة بلوزداد أول من دخل عالم الإذاعة والتلفزيون في الجزائر بعد الاستقلال، في ستينيات القرن الماضي، وتألقت كثيراً في الشاشة الفضية، تاركة بصماتها الخاصة، وساهمت في تكوين الرعيل الأول من المذيعات ومقدمات برامج ومذيعات ربط وصحفيات في التلفزيون خاصة. الراحلة أمينة بلوزداد، واسمها الحقيقي ربيعة علي شريف المولودة سنة 1929 بقرية ايسحنونن في ولاية تيزي وزو من عائلة كبيرة ومحافظة، عاشت بشارع محمد بلوزداد (بلكور سابقا) في الجزائر منذ 1950 إلى أن وافتها المنية قبل أيام.أمينة بلوزداد..شمعة تنطفئ في عالم الإعلامبلوزداد الإعلامية المخضرمة تختزن الراحلة أمينة بلوزداد ذاكرة التلفزيون الجزائري، بحيث ترجع بداية مشوارها إلى ما قبل فترة الاستقلال حين كانت تعمل بمبنى التلفزيون الذي كان بدوره تحت يد الإدارة الاستعمارية نهاية الخمسينيات. وتعد أمينة بلوزداد أول إعلامية في التلفزيون الجزائري بعد الاستقلال، مع إطلالتها عبر الشاشة بعد انسحاب الصحافيين والتقنيين الفرنسيين من مؤسستي الإذاعة والتلفزيون يوم 28 أكتوبر 1962. ومع عبارتها الشهيرة “هنا إذاعة وتلفزيون الجزائر المستقلة”، بدأ عهد الاستقلال لهاتين المؤسستين رسمياً. وقرأت على المباشر من الاستوديو الرئيسي للتلفزيون الجزائري بيان ميلاد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.كانت بداية مشوارها عندما التحقت سنة 1958 بمكتب البث والتلفزيون الفرنسي، وكسبت تجربة كبيرة مكنتها من العمل باحترافية، ولتلتحق بالإذاعة والتلفزيون الجزائري، هذا ما صرحت به ليومية الوطن عندما قالت “أعلن اليوم صراحة أني بدأت العمل مجبرة، لأني كنت أما لثلاثة أطفال وزوجي كان موظفا بسيطا، كثرة احتياجات أطفالي وطلباتهم هو ما أجبرني على العمل لمساعدة عائلتي، وقد شجعني زوجي وأخي الأكبر على خوض غمار عالم الشغل، بالرغم من أن مجتمع تلك الفترة يرى مكانة المرأة كزوجة ومربية لا أكثر”.عايشت أمينة بلوزداد اللحظات الأخيرة التي خرج فيها المستعمر الفرنسي من التلفزيون الجزائري، وأثبتت أنها قادرة على التواصل مع المشاهد الجزائري باللغة العربية، رافضة التقديم بلغة المستعمر الفرنسية، وحملت في نفسها هاجس تطوير الإعلام في الجزائر، فقد ظلت طوال حياتها تحمل الكثير من صمود وشجاعة الشهداء والمجاهدين، وحاولت ترجمة ذلك في المشهد الإعلامي. درست بلوزداد في المدرسة الفرنسية والعربية في نفس الوقت، لأنها تربت في وسط متعرب وتعلمت القرآن وبعض القواعد التي بنت بها ركيزتها المستقبلية، وساعدها في مشوارها الإعلامي كثير من الشخصيات، منهم سي عبد القادر الهواري بن أحمد تادلاوي، وعثمان عمار، والهاشمي شريف وغيرهم.مسيرة حافلة بالاحترافية والأناقةعرفت في سنوات الستينيات والسبعينيات بأنها ملكة التلفزيون الجزائري، حيث برزت في زمن “الأسود والأبيض”، أو “الزمن الجميل” كما يسمّيه البعض، في تقديم البرامج التلفزيونية بكفاءة وقُدرة قل نظيرها في مذيعات اليوم، خاصة في جانب التمكّن من اللغة والإلقاء..كانت تجلب الأنظار بأناقتها وتميزها، كانت ذات ثقافة واسعة نمت مع نمو سيرتها، كانت تمر من العربية إلى الفرنسية بكل سهولة متمكنة في مجال الإعلام، رغم عدم تكوينها في المجال، وقد نالت عميدة المذيعات الجزائريات أمينة بلوزداد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إعجاب الجمهور، وقال الإعلامي التلفزيوني مدني عامر الذي واكب مسيرة بلوزداد عن تجربتها لـ “العربي الجديد” “كانت لا تتقن كلمة واحدة بالعربية، لكنها خاضت تحدي التحول والتغيير بدءا من الذات، لتصبح مرجعا في اللغة العربية كتابة ونطقا، هي من أطر كل المذيعات اللائي جئن بعدها، وهي من علمهن القواعد الأساسية من الجلوس إلى كيفيات مخاطبة الجمهور”.رحلة من زمن “الأبيض والأسود” إلى زمن “الألوان”أشرفت الراحلة بلوزداد على العديد من البرامج ومختلف الحصص التلفزيونية والفنية المتنوعة، وظلت منذ ظهورها على الشاشة الصغيرة قبل عدّة عقود تأمل، وفي مختلف المناسبات، أن يرتقي الإعلام الجزائري أكثر مّما هو عليه الآن إلى مستوى تضحيات جيل الاستقلال، داعية الجيل الجديد إلى العمل والاجتهاد في سبيل تحسين الخدمة العمومية للتلفزيون الجزائري، كانت سخية لا تبخل بالمساعدة، بدليل تكوينها للعديد من الإعلاميين من أبناء جيلها، وكانت بذلك المدرسة والركيزة التي تطور بها العمل التلفزيوني الجزائري سنوات الستينيات، وعملت بكل تفان من أجل تقديم الأحسن، وظلت في عطائها للكاميرا من زمن الأبيض والأسود إلى زمن الألوان، وصارت مواكبة لتطور فن التصوير، وكانت بذلك المذيعة الأكثر شهرة وتألقاً في الجزائر، والنجمة التي سطعت بإطلالتها الملائكية وصوتها العذب.كلمات تشهد لها بالعطاءقال ممثل وزير الثقافة على لسان جريدة “لوريزون” يوم إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الراحلة “تخسر الجزائر في شخص أمينة بلوزداد سيدة عظيمة، وخسارتها محنة مؤلمة لجميع الشعب الجزائري، كانت طوال حياتها ناشطة في خدمة التلفزيون الجزائري.. وشديدة التعلق بوطنيتها”، وقالت شقيقتها سكينة “اليوم كل الجزائر تنعى وفاتك”، وقال ابنها إنه يشهد لها بالمودة والتواضع، بينما يتذكر البعض الآخر حبها للثقافة.وقالت زميلتها فضيلة بحاس إن الفقيدة بلوزداد تتمتع بحس وطني عالٍ، فقد كرست شبابها للبحث والمعرفة، “وحدها أسست جيلا من الرجال والنساء خدموا التلفزيون الجزائري”، ويضيف فوزي فوضيل المسؤول التنفيذي السابق للقناة الإذاعية الأولى “عملت أمينة معي على الراديو عندما نقلت إلى الإذاعة والتلفزيون في ذلك الوقت، وكنت رئيس قسم البرمجة في القناة الأولى.. ما أتذكره عن أمينة هو أنها كانت امرأة من العصاميين الذين يريدون التعلم كل يوم، وكانت سيدة ذات روح فنية عالية، وقالت إنها تحب أم كلثوم، شارل أزنافور، وتحب الموسيقى الكلاسيكية، وكانت امرأة تتقن الميدانية في جودة مذيعة تلفزيونية”. كما قال الموسيقار عبد القادر بن دعماش إنها كانت رمزا للأناقة والجمال، وهي تجسد تاريخ التلفزيون الجزائري، فهي ليست فقط صحفية أو منتجة، ولكنها كانت أيضا رمزا من رموز الجزائر”.فارقت “ساحرة الشاشة الفضية” الحياة بمستشفى عين النعجة العسكري يوم الثلاثاء 29 سبتمبر 2015، عن عمر ناهز 86 عاماً إثر جلطة دماغية، بعد عطاء كبير للتلفزيون الجزائري، وتم استقبال جثمان “عميدة المذيعات” بقصر الثقافة مفدي زكريا صباح الأربعاء 30 سبتمبر لإلقاء النظرة الأخيرة عليها والترحم على روحها الطاهرة، ثم ووري جثمانها الثرى بعد صلاة الظهر بمقبرة سيدي أمحمد بالجزائر العاصمة.ذهبت أمينة وتركت وراءها مشوارا حافلا بالإنجازات، يشهد كل ركن من أركان مقر التلفزيون عن عطائها المتميز وجدارتها في أن تكون حقا عميدة الشاشة الفضية الجزائرية.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات