زيارة "المقامات" تعود وسط الاستنكار والسخط بالجلفة

+ -

في الوقت الذي تتخلص فيه العديد من مناطق الوطن مما يسمى بـ”المقامات” وتقلص زيارة الأضرحة، ظهرت في الأسابيع الأخيرة في إحدى مناطق ولاية الجلفة مجموعة من الناس وضعت لنفسها مساحة شاغرة، وراحت “تزورها” بين الفينة والأخرى، “تبركا” بها. يشكو العديد من سكان منطقتي “قيازة” و”النفيضة” التابعتين لبلدية بويرة الأحداب، شمال ولاية الجلفة، من حدوث ظاهرة غريبة ومهجورة في الأعراف والتقاليد البالية التي أصبح الجميع يتحاشاها، ويتجنب حتى الحديث عنها، والتي أصبحت بائدة منذ سبعينيات القرن الماضي. ويتعلّق الأمر بـ”ظاهرة استحداث مقام” يزروه العشرات من الأشخاص على أساس التبرك به، وهو مكان خال، لا ضريح به لولي صالح، ولا تاريخ عنده، ما جعل السكان يستنكرون هذا الفعل الذي قامت به مجموعة تأتيه كل جمعة تزعجهم بالفوضى وتنتهك حرمات حدود أراضيهم الفلاحية الرعوية، رغم أن للمقام شروطا ومعايير ومقاييس ينشأ بها.تعتبر ظاهرة “زيارة المقام” وإقامة وليمة بها مع نقر الدف وبعض الرقص وهو ما يسمى “الحضرة” من العادات البائدة، أكل عليها الدهر وشرب، على المستوى الوطني بشكل عام وولاية الجلفة بشكل خاص، حيث انقرضت هذه العادة مع مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. و«المقام” مكان يوضع في مرتفع هضبة، لأن هذا العلو عند أصحابه أو الشخص الذي اختاره يرمز إلى الترفع عن الدنايا والارتقاء إلى أصحاب المعالي، والمكان المرتفع عادة ما يختاره المؤذن من أجل إسماع صوته، وبالتالي فإن المقام يكون في المرتفع لإسماع صوت الأدعية والتضرع والاستغفار والترحم وبالتالي القرب من السماء، وهو ما يسمى بـ«مقام العيطة”. كما أن المكان كلما ارتفع كلما كان الأوكسجين والهواء نقيا نظيفا، ويشترط فيه أن يكون قد أقام به رجل صالح أو نزل به عندما كان في رحلة أو في ضيافة عرش معين، فيتخذه ذلك العرش مقاما يزورونه ويتبركون به، لأن شيخا صالحا أو وليا من أولياء اللّه في اعتقادهم قد نزل بالمكان، وأحيانا ما يكون المقام مجلسا معتادا لشيخ صالح أو لمجموعة من الأشخاص أو حتى النسوة الصالحات، حيث كان مقر عبادة، أو تراحم، أو إجراء صلح، أو مكان تعبد وتهجد، ويحتفظ الناس بهذا المكان فيحيطونه بحاجز من الحجارة وتنظف أرضيته بالداخل من الحشائش أو ما يشوبه، ويستحسن نزع الحذاء عند دخوله، رغم أن أرضيته من تراب.وإذا كان المقام لشخص معروف قد يدفن به ويبنى عليه ضريح، ثم ترفع قبة عليه، وقد تدفن إلى جواره عائلته وعشيرته أو مريدوه، ويصبح فيما بعد مقصدا للتبرك، وتقام فيه الولائم، بنحر شاة كل فصل، أو كل عام، ويأتيه أتباع هذا الولي الصالح ومريدوه، مع نقر الدف والرقص، وتحضّر فيه القهوة والشاي، وكذا “الروينة”، وتوزع على من هم في المكان.“الخوني” لتسيير وعدة الزيارةولا بد من شروط في تسيير هذه الزيارة السنوية أو الفصلية، بحيث يعيّن شخص من المخلصين لصاحب المقام، سواء كان وليا أو شيخا صالحا، أو من العرش ذاته يشرف على العملية ويسمونه “الخوني” الذي تأتيه الهدايا المعروفة باسم “الزيارة”، وهو يتولى فيما بعد توزيعها أو الاحتفاظ بها. فإذا كان اللقاء سنويا ونحرت الشياه في هذا المكان سميت بـ«الوعدة” وتنسب إلى صاحب المقام فيقال “وعدة سي فلان”، وقد تكون فصلية وفي مثل هذه الوعدات كان السابقون يقيمون الولائم ويصلحون بين المتخاصمين، وتقام فيها “حضرات” الدف والرقص ويفسح للنساء بالاستغراق في الرقصة حتى تغيب عن الوعي، وتدخل في مرحلة هز الرأس والصياح، وهذا النوع يسمى بـ«الحال”، وهو نوع من التنفيس عن المكبوتات عند المرأة فيما مضى من سالف ذلك العهد، باعتبار أن المرأة كانت مقهورة لا حكم لها ولا رأي عندها، وتقام أيضا فيها سباق الخيل وألعاب الفروسية ويتوزع القادمون بين منازل سكان تلك المنطقة يأكلون ويشربون، وعادة ما تكون مثل هذه الوعدات في فصل الخريف، لأن الجميع يتفاءل بسقوط الأمطار به حتى تكون السنة خصبة، ويختار له يومي الخميس والجمعة لأنهما يومان مقبولان عند المسلمين، وأحيانا ما يكون المقام مقصدا لزيارة النساء في أيام معينة أغلبها الاثنين والجمعة يقتصرون على إعداد القهوة و«الروينة” تبركا بالمكان، مقدمات دعوات حول ما يأملن أن يتحقق لهن في الحياة، وخاصة فيما تعلق بإنجاب الذرية.الخلوة.. للنساء فقطولعل المقامات كانت كثيرة على مستوى ولاية الجلفة، وتأخذ عدة تسميات إضافة إلى اسم “المقام” هناك اسم “الخلوة” والتي عادة ما تكون في هضبة صخرية، وعادة ما تكون مقصدا للنساء، ولهذا سميت بالخلوة لخلوها من جنس الرجال فيها، يحضّرن القهوة دون غيرها من المشروبات و«الروينة” دون غيرها من المأكولات، وتتحلق النسوة بها ويتبادلن أطراف الحديث مثلما يباشرن في أدعيتهن لما يأملن تحقيقه، وفي بعض الأحيان تلقي المرأة ببعض شتات “الروينة” على تلك الحجارة والصخور كنذر لدعائها إذا ما تحقق، وتسمي ذلك الشتات بـ«مح الأوعالة”، ومعنى “الأوعالة” هم “العصافير”.والذي يبحث في تاريخ بلديات الوطن يجد في كل بلدية مقاما أو أكثر كانت في عرف سكانها يزورونها أو يتخذونها مكانا للقاء والتجمع، وممارسة تلك الطقوس التي يختلط فيها شيء من الخرافة، وشيء من الأسطورة، وشيء من الدين، وبعض من الشعوذة، وبعض من الطرقية، لتغدو فسيفساء كانت سمة تلك العقود الزمنية، فيها العفوية والسذاجة والسطحية والتلقائية والكثير من الأمور.ولا يقتصر اسم “المقام” على الرجال فقط، فقد يكون باسم النساء مثل “مقام الرقاديّات بالجلفة” ومقام “لالا تركية” وغيرها على مستوى التراب الوطني، غير أن تطورات الحياة وانتشار الوعي والثقافة الدينية ربما تكون قضت على فكرة “المقام” قضاء نهائيا، خاصة أن هذه الأماكن أصبحت موجودة في أراضي بعض الفلاحين تحيط بها المستثمرات والمحاصيل الكبرى من القمح والشعير، فيما بقيت زيارة “الأضرحة” أو إقامة “الوعدات” بمساحة قليلة جدا هي الأخرى أمام المد الديني لاتجاهات دينية متنوعة ومختلفة من الشرق والغرب، إضافة إلى المد العلمي والثقافي وتعقد الحياة في مختلف نواحيها، كلها أمور قضت على مثل هذه الأفكار.مقام حديث في القرن الـ21!غير أن سكان مناطق “قيازة” و«النفيضة” بتراب بلدية بويرة الأحداب شمال الولاية صدموا هذه الأيام باستحداث بعض أهالي المنطقة لمقام، وأصبح مقصدا لعشرات الأشخاص يأتون إليه من البلديات والمناطق المجاورة بسياراتهم، ويقتحمون أراضي الفلاحين المقيمين للوصول إلى المقام، وقد يصحبون معهم الأصحاب ويقومون بإعداد القهوة والشاي و«الروينة”. وفي هذه التصرفات بقي السكان مندهشين لعودة الظاهرة التي لا تأتي إلا بالإزعاج لهم كل جمعة، بل وفيها تجاوز لحدود أراضيهم، وقد تتطور لتصبح فيها تجاوزات أخرى، خاصة أنها من العادات البالية جدا، ولا يجدون فيها دفعا لضرر أو إقامة صلح بين الناس كما كانت العادة القديمة في مثل هذه الأماكن، بل أصبحت تحرك عداوة السكان المجاورين وتثير سخطهم وغضبهم لا أكثر من ذلك.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات