يتجلى جمال تاريخ القصبة في عدد من المباني المشيدة التي استطاعت البقاء والصمود في وجه الزمن، ومنحت لقلب المدينة القديمة نفسا يتحدى عوامل الزمن وسط الخراب، رغم أن بعضها أغلق وحول الأوفر حظا منها إلى مقرات إدارية، ما قلل من قيمتها السياحية وأفقدها طابعها المتميز. هذه القصور شيدت من أجل وجهاء القوم أثناء الحكم العثماني مثل مصطفى باشا وحسن باشا وكذا رياس البحر، خلال تلك الحقبة، وكانت إقامات سكنية للأعيان وأماكن السلطة السياسية خلال العهد العثماني.شيد قصر مصطفى باشا بالقصبة السفلى بالقرب من البحر، تجاوره قصور أخرى ومساجد شهيرة كمسجد كتشاوة وبتشين والمسجد الكبير للجزائر العاصمة الذي يعد أقدم مسجد بالجزائر بني حوالي العام 900م. قصر الداي مصطفى باشا بني العام 1798م، وأعطى أمر تشييده بهندسة رائعة، واستطاع الصمود لأكثر من قرنين من الزمن. حولته السلطات الاستعمارية إلى غاية 1948 إلى مكتبة وكانت أول مكتبة فرنسية بالجزائر، قبل أن يصبح بموجب مرسوم وزاري بتاريخ 7 نوفمبر 2007 مقرا لمتحف الزخرفة والمنمنمات وفنون الخط.أكبر قصور الجزائر بهندسة معمارية رائعةكانت لنا جولة داخل القصر رفقة باحث التراث والتاريخ، بن مدور محمد، التقينا به في الشارع المقابل لجامع كتشاوة، قادنا إلى قصر مصطفى باشا الذي يبعد بضعة أمتار فقط عن الجامع، مرورا بشارع ضيّق. لم نكن نتصور وسط ذلك الخراب وجود قصر رائع وجميل في تلك الجهة، وتحفة معمارية تحكي تاريخها العريق بنفسها. بدأ بن مدور يروي لنا حكاية القصر عند مدخله وبداية من الباب الخشبي الكبير المنقوش برسومات إسلامية به مطرقتان علويتان ومطرقة سفلية، قال محدثنا إن العلويتين يستعملهما الداي عندما يكون راكبا على فرسه والسفلية عندما يكون مترجلا، عاد بنا بن مدور إلى الوراء بقرون. تجاوزنا الباب الرئيسي وإذا بنا أمام تحفة تنطق بعراقة الحضارة العثمانية، تقابلك عند مدخله “سقيفة” جدرانها مزخرفة بأنواع رائعة من الرخام الخالص وبلاط مزركش بأشكال هندسية رائعة، بها مجالس لانتظار أمر الدخول للقصر، تليها قاعة الاجتماعات لديوان الوزراء وخطبة الداي، مزخرفة بأشكال ورسومات مختلفة تعود للقرن 18. قال بن مدور إن القصر يحتوي على أكثر من 500 ألف قطعة بلاط رفيعة، ويعتبر القصر الأول والوحيد في الجزائر الذي توجد فيه هذه الكمية، إضافة إلى أعمدة من السيراميك الإسباني والتونسي والإيرلندي. بني القصر على شكل قلعة ويحتوي على ثلاثة طوابق، ناهيك عن الأرضي الذي خصص لضيوف الداي، أما الطابق الأول للداي وعائلته، والثاني للأقارب، أما الطابق الثالث والأخير فخصصه للعبيد والعاملات بالقصر، توجد به قاعات للرقص تحييه الجواري للداي.كل شيء مميز ومعبّر بالقصرفضّل بن مدور الغوص معنا في أعماق القصر بالعودة إلى معاني الزخرفة والرسومات الموجودة به والغرض منها، بدأ بأبواب القصر المصنوعة كلها من الحطب الخالص، ذات القيمة الجمالية العالية، أبدعتها أنامل حرفيين، كما يوجد به أنواع من الرخام المصنوع من معدن الكرار الإيطالي على شكل أعمدة تشكل مربعا يحيط بفناء القصر حتى طابقه الثالث، وهي أعمدة رخامية منقوشة على شكل يسمح للنباتات بالنمو والصعود متبعة العمود الرخامي، وبأعلى العمود أشكال هندسية ذات قيمة ودلالة تاريخية، منها الهلال التركي وزهرة القرنفل وهي شعار الجزائر العاصمة، وورقة “أكونتا” وهي شعار المنتوج الإيطالي، وتربط هذه الأعمدة عصي حطبية تعلق عليها الفتلة “الزيت والقماش” الذي يستعمل في الإضاءة، إضافة إلى شعار على شكل عمودين وقوس، وهي تعبر عن المذاهب الموجودة في الجزائر والخليط الجنسي الموجود بالقصبة في تلك الفترة. تتوسط الفناء الداخلي للقصر نافورة تكسوها قطع من الرخام الأبيض المنقوش، وضعت بها أنواع مختلفة من الأسماك وزينت بالنباتات بعد عملية إعادة ترميم وتصليح القصر.قال بن مدور إنه توجد في جميع غرف القصر وعلى أحد جدرانها الخارجية ثلاث فتحات تسمى “الريحيات”، وثلاث فتحات أخرى قرب سقف الغرفة تسمى “الشمسيات”، تستعمل لتهوية الغرفة. من مميزات القصر أيضا أن جميع أبوابه كبيرة مصنوعة من الحطب، بها باب صغير يسمى “خوخة” يفتح دائما في فصل الصيف.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات