+ -

لبست مختلف شوارع الجزائر العاصمة في السنوات الأخيرة بحلة يشعر معها زائرها وكأنه يتجول في إحدى مدن أوروبا. هذا حال أغلبية واجهات المحلات المنتشرة بكل من شارع ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وساحة أودان وغيرها، والتي عرفت مؤخرا ديكورا مغايرا بسبب انتشار تسميات وعلامات تجارية عالمية مكتوبة بلغات مختلفة، تزين واجهات المحلات والمراكز التجارية.. “كازا جيلاتو”، “سبيقا”، “قاقا مودا”، “قولد ستار”، “ماتيرنا”، “لاسترادا”، روشا”، وغيرها من العلامات التي طغت تسمياتها الأجنبية على التسميات العربية المعدودة على أصابع اليد. انتشرت في السنوات القليلة الأخيرة بمختلف المدن الجزائرية ظاهرة واجهات المحلات التجارية المكتوبة بمختلف اللغات الأجنبية، على غرار اللغة الفرنسية التي يفهمها الأغلبية الساحقة من الشعب، كما نجد كتابات بلغات أخرى مثل الإسبانية والإيطالية والإنجليزية، بل حتى الصينية، تتزين بها واجهات المحلات وأعلى مداخل المساحات التجارية. “الخبر” تجولت بمختلف شوارع العاصمة وعادت بعدة آراء لأصحاب المحلات وبعض المواطنين.الكتابة مجرد عنوان لا أكثرقصد معرفة سر هذه الكتابات وسبب اختيار أصحابها لهذه التسميات، قصدنا محل “كازا جيلاتو” بشارع كيتاني في باب الواد بالعاصمة، وهو محل يقدم المثلجات الإيطالية. يقول مهدي وعبد المؤمن، وهما شابان يعملان هناك، إن المحل الذي فتح أبوابه منذ 7 سنوات يعرض مثلجات من النوع الإيطالي، تحضر مختلف أنواع مثلجات “كازا جيلاتو”، ومنها مثلجات “ميلون”، وهي عبارة عن مزيج من الفواكه والسكر والماء ومادة أولية يتم جلبها من إيطاليا، وأيضا “العلك الأزرق”، “شيارة” و “كافي إيسبريسو”، وقال الشابان إن فكرة تسمية المحل بهذه العلامة تعود لصاحبه الذي يعيش في تنقل دائم بين الجزائر وإيطاليا، وأراد نقل ثقافة المثلجات الإيطالية إلى الجزائر. وبالفعل يقصد المحل أعداد كثيرة من الزبائن الذين يفضلون تذوق العلامة الإيطالية بالرغم من غلاء أسعارها مقارنة بالمحلية.ويرى صاحب محل “ماريو بوني” بشارع ديدوش مراد بالعاصمة، أن اختياره للعلامة عبارة عن تسمية مميزة لمحله لا أكثر، وقال في حديثه معنا إن علامة “ماريو بوني” إسبانية اختارها عندما بادر إلى ذهنه فتح محل لبيع الملابس الرجالية، ونظرا لكون العلامة معروفة، قرر فتح محل يحمل هذه العلامة العالمية المميزة. ويتخذ صاحب محل “ماريو بوني” هذه العلامة كعنوان يمكِّن الزبون من الوصول إلى محله بكل سهولة قائلا “في القديم كانت جميع المحلات يكتب عليها محلات بيع الملابس، وكان الزبون يجد صعوبة كبيرة في الوصول إلى المحل الذي يريده، لأن كلها تحمل نفس التسمية، لكن بوجود هذه التسميات المختلفة يصل الزبون إلى مقصده بكل سهولة”، ونفى محدثنا أن يكون هدف وضع هذه العلامة تجاريا وإشهاريا، لأنه لا يبيع هذه العلامة في محله، بل يبيع مختلف الملابس الرجالية من قمصان وسراويل وأحذية من علامات مختلفة.من جهته قال صاحب محل “قولد ستار” في شارع حسيبة بن بوعلي، إن تسمية محله تعود إلى سنوات مضت عندما كان المحل متخصصا في بيع الملابس الرجالية من علامة “قولد ستار” الإنجليزية، وكان يأتي بالسلع من إنجلترا، لكنه حاليا يبيع مختلف العلامات والماركات لصعوبة إدخال السلع الإنجليزية للجزائر ولغلاء أسعارها، وأرجع متحدثنا انتشار هذه الكتابات واللافتات بمختلف شوارع العاصمة والمدن الكبرى إلى غزو السلع الأجنبية للجزائر، واندثار السلع المحلية، فمن الطبيعي أن يحدث ذلك باعتبار أن المحل يبيع سلعا مستوردة، فهو يضع علامات وماركات للسلع التي يبيعها.الحضارة والعولمةرضا، شاب في العشرينات التقيناه في شارع ديدوش مراد بالعاصمة، استحسن فكرة الواجهات المكتوبة بلغات مختلفة، مؤكدا أنها تعطي زيا وجمالا حضاريا للمدينة، مشيرا إلى أن الواقع يفرض ذلك، لأن العالم في تقدم متواصل ويجب التماشي مع ذلك، فالمدينة وخاصة المدن الكبرى تقصدها جاليات مختلفة، كما أن هذه الكتابات تخدم المواطن الجزائري وتساعده في البحث على معاني هذه الكلمات وبالتالي ثقافة المجتمع، وتشاطره في ذلك نصيرة، أستاذة في المتوسط، وتقول إن هذه التسميات إحدى دلائل تحضر المجتمعات المعاصرة، وهو شيء جد عادي لأننا نجده في كل دول العالم وخاصة المتحضرة.وتأسف الشيخ عبد القادر (70 سنة)، متقاعد وجدناه جالسا في ساحة الأمير عبد القادر بالعاصمة، لمثل هذه اللوحات والتسميات، ويرى أن اللغة العربية أولى في كتابة هذه الواجهات لأنها لغة الوطن، أما بقية اللغات فهي دخيلة، وأرجع ظاهرة الكتابة باللغات الأجنبية إلى العولمة التي قضت على خصوصيات المجتمع، وبالتالي ثقافته ومعالمه الخاصة به، مضيفا أن انتشار هذه اللغات على واجهات المحلات والمراكز التجارية يبين مدى تنصل المجتمع الجزائري من عاداته وأصله، وتعبر على تقيد الفرد بالمجتمعات الغربية التي أصبحت مثله الأعلى، وهذا ما عمل الاستعمار منذ زمن طويل على غرسه في الأذهان، ويضيف متحدثنا أن التحضر والثقافة ليسا مرتبطين بالحضارة الغربية، فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية لسنوات طوال أكبر حضارة في العالم، ووصلت شهرتها لمختلف بقاع العالم، فكيف نتخلى عنها الآن ونتبع الحضارات الغربية؟ وتحسر الشيخ عبد القادر لواقع مجتمعنا قائلا “عار علينا أن نشهر للغاتهم ونملأ وجهات محلاتنا بلغتهم، وهم لا يعيرون أدنى اهتمام للغة العربية، هل تجد في إيطاليا أو إسبانيا أو أمريكا لافتات مكتوبة باللغة العربية؟ طبعا لا”.ويرى أحمد، زبون وجدناه بأحد هذه المحلات، أن هذه التسميات تسبب له القلق والتوتر كونه يعجز عن فهمها، ما يحتم عليه في كثير من الأحيان الدخول للمحل ومعرفة ما يبيعه، الأمر الذي يكلفه الكثير من الوقت “أعجز عن فهم هذه الكتابات وخاصة منها المكتوبة بالإسبانية والإيطالية، لذلك تجدني أدخل المحل لأعرف ما يبيعه، ثم أقرر هل هو مقصدي أم لا، فأنا أشعر كأنني أجنبي في بلدي”، وهو حال معظم الزبائن، خاصة عندما يفتقر المحل إلى واجهة لعرض السلع. وقد بدأت هذه الظاهرة في الانتشار، وأصبح معظم من يقدم على فتح محل أو مركز تجاري أو سوبر ماركت يضع واجهات تحمل علامات وكتابات بلغات مختلفة، وبذلك تحولت هذه الماركات من دليل على تخصص المحل إلى إبداع تفنن أصحابها في وضع مختلف العلامات العالمية بلغات مختلفة، وفي بعض الأحيان برسومات وألوان وأضواء تجذب الزبون وتخطف إعجابه، لكن رغم وجود من استحسن وضعها واعتبرها وجها من وجوه الازدهار والتقدم، تبقى هذه الكتابات مجهولة وتمثل عائقا أمام مجتمع يجهل أغلب أفراده معانيها.    ل.أالبروفيسور عمر أودينية“السلطــــــات استقـــــالــت فكــــان التسيّـــــب” أرجع المختص في علم الاجتماع عمر أودينية ظاهرة الكتابة على واجهات المحلات بلغات أخرى غير العربية والأمازيغية إلى التسيب الذي يعاني منه المجتمع الجزائري، وعدم الضبط الاجتماعي لوسائل السلطة، في ظل غياب سلطة الضبط القانونية من رجال الأمن واتحاد التجار والمقاولين والجمعيات الثقافية التي تخول لها مهمة تنظيم وتحديد أشكال الاتصال المختلفة، وطريقة كتابة هذه اللوحات ومكان وضعها وانسجامها، قائلا إن هذه السلطات تخلت عن دورها، ما جعل قواعد المنافسة في الجزائر غير شرعية وغير محترمة، وبالتالي خلق أزمة ثقافية واجتماعية قبل أن تكون اقتصادية، وأرجع متحدثنا رواج هذه الكتابات وانتشارها بكثرة إلى الفائدة الاقتصادية التي تعود على التاجر، كونها تمثل شكلا من أشكال التسويق الذي يكون غالبا غير قانوني، لأن التاجر يلعب بمشاعر الزبون ويجذبه إلى شراء السلعة حتى ولو لم تكن أصلية وذات جودة عالية، وبالتالي فهي عملية تضليل وفرض نوع من التميز غير القانوني، وتغطية غير شرعية لأنشطة اقتصادية وتجارية توهم الزبون بأن السلعة أجنبية وهي ليست كذلك، وعليه فهذا ليس تفتح ولا يخدم لا البائع ولا المشتري ولا الاقتصاد الوطني.بالمقابل دعا الأستاذ عمر أودينية إلى ضرورة تشجيع الإنتاج الوطني وخلق صناعة محلية ومنتج جزائري خالص واستهلاكه، وفي مثل هذه الظروف والأوضاع، نستعمل اللغات الأجنبية للترويج لمنتجنا المحلي وجلب الزبائن إليه، سواء المحليين أو السياح الأجانب، وبذلك نخدم الجانبين: ثقافة المجتمع وترويج المنتج المحلي الجزائري.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات