38serv

+ -

كلّما وقف المسلم أمام حدث من حوادث السّيرة النّبويّة العطرة، كلّما تاه في أنوار المصطفى وتعلّقت همّته لمعرفة أخباره وتقصّي أسراره، وازداد شوقه أكثر فأكثر لرؤيةالحبيب صلّى الله عليه وسلّم وصحبته في الجنّة.

الهجرة محطّة رائعة وصورة رائقة من حياته الطّاهرة وآثاره العطرة، وهي بحقّ تحوّل عظيم في تاريخ البشرية وارتفاع عن سفاسف الدّنيا وحطامها إلى سقف المجد، ومن حضيض المادة إلى طهر الرّوح، ومن ظُلمة الجهالة إلى نور العلم والمعرفة!لقد كان ذلك لثلاث وخمسين سنة من مولده الشّريف، ومنذ بعثته وهو في نصب وتعب، قام فأنذر، ودَعَا إلى الجنّة وبشّر، ترك طعامه وهو يقدر عليه لكي يشبع النّاس، وترك فراشه ليُسعد البشرية، وقام اللّيل باكيًا ضارعًا كي يَرانا على أتمّ طاعة وأكملها، وخرج من داره خائفًا يترقّب بعد أن ذاق العذاب الوبيل، والكيد والويل من أعدائه في مكّة، وترك أحبّ البقاع إليه مهاجرًا بعد مؤامرة كادت تودي بحياته. قال فيما روى الترمذي: “ما أطيبك من بلدٍ وأحبّك إليّ، ولو لا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك”.وقبل خروجه، أعدّ العدّة واتّخذ الأسباب متوكّلاً على الله، أَمَّن الطّريق، واختار الرّفيق، وأحكم الخطّة، وحددّ الوجهة، وعفى الآثار، وعمّ الأخبار، فحمته العناية الإلهية وحرسته الرّعاية الربّانية، حتّى أشرق على المدينة بدرُه، وأضاء في رحابها نوره، وبين الانطلاق من مكّة، والوصول إلى المدينة مهامه ومصاعب، ومخاطر ومتاعب!إنّنا نذكر يوم أُحرج الإسلام أيّما إحراج، فحين خرج صلّى الله عليه وسلّم كان القتلة يحكمون عليه القبضة، ويحوطون بيته إحاطة السّوار بالمعصم، فأعمى الله أبصارهم {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يس:9، كما أحرج الإسلام مرّة أخرى (في الغار) في لحظة لو أدركوا صاحب الرّسالة فيها لقتلوه ولشقي العالم حينئذ، ولكن يد الله تحوط الدّين بالحفظ، وتكلؤه بالعناية، فمُنع رسول الله لا بأسوار عاتية، ولا بجنود بشرية باسلة، ولا بأيدٍ قوية واصلة، إنّما هي آية ضعيفة، قوّاها الدّعاء واليقين، ونبل القصد في الدّين “يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما”، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التّوبة:40.إنّ أخذ الدّروس من حياة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم هو الدّراسة الجادة لتقويم النّفوس ورياضتها، وحملها على الحقّ الّذي مثّله المصطفى الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وهاك بعضها، وإن فهمت عنّي أيّها القارئ، فقد وعيت الدّرس، وخير الكلام ما قلّ ودلّ.وإنّ النّاشئة مدعوة لأن تتعلّم الفداء والتّضحية من سيّدنا عليّ رضي الله عنه، ولك أيّها الشّاب المسلم قدوة في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، فكن ذكيًا حاذقًا سريع الفهم، وكم ينقصنا الفهم في زماننا، تعلّم منه كيف حَافظ على دعوة الله ومكاسبها، وأبعد الأذى عن رسول الله وأبيه، وإيّاك أن تكون فتنة يُصاب بك الإسلام في كبده، والدّين في نحره، {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً..}. ولك أيّتها المرأة المسلمة أسوة في أسماء ذات النّطاقين في تزويد هذا الجيل بزاد اليقين والتّربية، وإن اقتضى منك شطر العمر، وقسمة المال، واعلمي أنّ العكوف على تربية أولادك هو هديتك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونُصرتك له.أيّها الآباء في أبي بكر المثل الأعلى، والقدح المعلى في الغداء والصّحبة والإيثار لله والانتصار لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم {فَاعْمَلُوا صَالِحًا}، ولا تبخلوا عن أنفسكم على الأقل بالنُّصح الرّشيد والرّأي السّديد، وبالدّعاء بظهر الغيب.هذه دلائل الهجرة وآثارها في الأسرة المسلمة الّتي تحتضن الدّين وتصون مبادئه، وتحمي الوطن ولا تخون معالمه، أسرة أبي بكر النّموذجية الّتي بدأت من حيث بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أقام دعائم المجتمع الجديد من المسجد الأوّل، فمِن الصّلاة، والتّزاحم على أبوابها يشاد المجد، ويبنى العزّ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، ثمّ من المؤاخاة والحبّ في الله، وتناسي الأحقاد لَمّ الصفّ، ووحّد الكلمة وجمع الشّتات، فكانت الأمّة خير أمّة أخرجت للنّاس، أمّة الجمعة والجماعة، وما جمعته يد الله لا تفرّقه يد الشّيطان.فحينئذ لا خوف على الدّين، ولا خوف على الوطن، ولا خوف على غالٍ وثمين، فالله منجز وعده، وناصر عبده.*إمام وأستاذ الشّريعة بجامعة المسيلة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات