”الحمد لله كثيرا”.. هذا ما ردّده أوائل الحُجاج الجزائريين الذين وصلوا إلى مطار هواري بومدين الدولي، قادمين من البقاع المُقدسة، حيث تنفسوا الصعداء كأنهم لا يصدقون أنهم عادوا سالمين إلى أرض الوطن، فيما ارتفعت زغاريد العائلات وهي تستقبل ذويها بعد أيام عصيبة قضوها في انتظارهم! وهم يتساءلون عن مصيرهم في كلّ مرّة يسمعون فيها خبرا عن وُقوع حادثة في مكة.
وصل عمي عبد اللطيف مطار هواري بومدين، واستقام في وقفته وراح يلتفت وينظر من حوله يمينا وشمالا كأنه ليس مُصدقا بأنه في بلده الجزائر! كان يرتدي عباءة بلون أبيض ناصع ويضع فوق رأسه ”شاشية” زادته هيبة ووقارا. كان وحده، وبدا كأنه يبحث عن عائلته، حتى اقتربنا منه وأخبرناه بأن عليه استرجاع حقائبه أولا، وأن عائلته، على الأرجح، تنتظره في الخارج، فشكرنا قائلا: ”الله يخليكم يا ولادي” قبل أن يضيف: ”والله لم أكن أعلم أنني سأصل سليما معافى إلى أرض الوطن”! ونظر محدثنا إلى نفسه كأنه يتأكد مما قاله للتو، هو شيخ في حدود الستين من العمر، ضعيف البنية، رغم قامته الفارعة، كان التعب باديا على محياه رغم الابتسامة التي يرسمها في وجهه دون تكلّف. كشفنا لعمي عبد اللطيف هويتنا كإعلاميين، فابتسم قليلا ورحب بنا قائلا: ”يمكن أن تُؤلفوا كتابا كاملا حول ما وقع لنا”، علمنا حينها أنه عاش الأمرّين خلال تواجده في البقاع المقدسة، وقفنا معه في انتظار حقائبه، فاسترسل في الحديث عما وقع له لحظة بلحظة...قال عمي عبد اللطيف إن الحجاج الجزائريين كانوا في ”فم الأسد”، فالخيم التي يبيتون فيها مطلة على الطريق الرئيسية، الأمر الذي جعلهم يعيشون ساعات عصيبة خلال حادثة التدافع بمنى. ”أنا؟ بالكاد تمكنت في رحلة العودة من استرجاع تلك المشاهد المرعبة التي رأيتها”.. بهذا رد محدثنا ونحن نسأله عما عاشه هناك، وأضاف وهو يحمل حقيبته الأولى: ”كنت عائدا بعدما رمينا الجمرات، كل شيء كان يبدو عاديا، وأنا كنت أمشي وأُسبّح وأبسمل، قبل أن أجد نفسي وسط الحجاج المتدافعين، لم أفهم ما كان يحدث وأن الأمر يتعلق بتقاطع حجاج قادمين وآخرين عائدين إلى الخيم، ولم أعلم في أي اتجاه علي الهرب، لكن مِمَ؟ لم أكن أدري! وبعد لحظات قليلة تعالى الصراخ، وصرنا نمشي فوق جثث الموتى”.. توقف مُحدثنا عن الحديث قليلا كأنه استرجع تلك المشاهد، لم يكن من السهل عليه أن يسرد علينا ما وقع، ساعدناه في حمل حقائبه إلى خارج المطار، حيث تم تنظيم مساحة تنتظر فيها عائلات الحجاج، شكرنا على مساعدتنا ثم قال: ”إنه قدر الله وقضاؤه وكل شيء بالمكتوب، لكن لابد من الحديث عما وقع حتى لا يقع حجاج آخرون في المواسم المقبلة ضحية لسوء التنظيم، لقد شهدت بعيني تلك الجثث، بقيت ملقاة على الأرض حتى ساعات متأخرة من مساء الحادثة، ومكدسة بشكل بشع، قبل أن تُجند السلطات السعودية جرارات لرفعها”، أبطأ محدثنا مشيته قبل أن يصل إلى الخارج كأنه يريد أن يقص كل ما عاشه هناك: ”قلت لكم إنني يمكن أن أسرد عليكم كتابا كاملا”.. ولدى سؤالنا له عن البعثة الجزائرية التي رافقتهم، قال إنها أدت واجبها رغم الكثير من النقائص التي وجب تداركها، لكنه انتقد أداء بعض الوكالات التي رافقت الحجاج: ”كان هناك حجاج لم يأكلوا لأن الوجبات التي تم توفيرها لم تتعد 150 وجبة، وأنا بدوري تقاسمت وجبتي مع أحدهم”، لكن محدثنا عاد وحمد الله كثيرا أنه وصل سالما رغم مشقة السفر ذهابا وإيابا، ففي طريق العودة مُنع أفراد الجوية الجزائرية من دخول مطار جدة، الأمر الذي جعلهم يعانون الأمرّين ويتأخرون لساعات.إنها لحظة لقاء العائلة، لاحظنا أبناء عمي عبد اللطيف وأحفاده يشيرون إليه من وراء القضبان فأثرنا انتباهه، فسارع إليهم وراح يحتضن كل واحد منهم، كانوا فرحين بمقدمه، وربما لا يصدقون أنهم يرونه مرة أخرى، الدموع اختلطت بالزغاريد، إنها الفرحة بالحاج الذي أدى أحد أركان الإسلام الخمسة، وتحمّل مشقة السفر وما عاشه هناك من عناء للتقرب إلى الله. نفس الانطباع، نفس المعاناة، ولكن نفس الرِضا بقضاء الله وقدره لمسناه لدى الحجاج الجزائريين خلال وصولهم تباعا إلى وطنهم.وزارة الشؤون الخارجية تخاطب عائلات الحجاج: ”حصيلة الوفيات مرشحة للارتفاع.. لكن اصبروا”دعت وزارة الخارجية عائلات الحجاج الذين مازالوا متواجدين في البقاع المقدسة ولم تصلهم أخبارهم إلى الصبر، خاصة وأن مصالح وزارتي الخارجية والشؤون الدينية تسعى للتعرف على هوية المفقودين والمصابين، في حين أعلنت عن ارتفاع حصيلة المتوفين إلى 9 و11 مصابا، 3 منهم في حالة خطيرة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات