الكتابات الحائطية لمواجهة تكميم الأفواه

+ -

تنتشر الكتابات الحائطية في كل مكان، غير مفرقة بين جدار منزل أو مؤسسة عمومية أو خاصة، أو حتى جدار ملعب أو قاعة سينما أو مؤسسة تربوية وتعليمية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن من مضمون الكتابات ما يخجل اللسان من نطقه والشفاه من لفظه، في وضع لم يحرك له أحد ساكنا، وظل في أحسن الأحوال حبيس بطون الكتب والدراسات الأكاديمية.❊ يعتبر الباحثون في حقل الإعلام والاتصال أن الكتابات الحائطية تدخل تحت مظلة القاعدة الفيزيائية التي تقول بأنه ”لكل فعل ردة فعل تماثله في القوة وتعاكسه في الاتجاه”.وانطلاقا من هذه القاعدة، تولدت مجموعة من التساؤلات، أولها لماذا الكتابات الحائطية ردة فعل وليست فعلا في حد ذاته؟ وفيما يتمثل هذا الفعل الذي كانت الكتابات الحائطية نتيجة لوجوده؟ وما هي أهم المجالات التي سال حبر الكتابات في إطارها؟إن هذه الكتابات وحسب الأخصائيين تعود إلى غياب حوار ونقاش تبادلي وجاد، يتم فيه الاستماع إلى الرأي والرأي الآخر، كما يعود أيضا إلى إلغاء قنوات الحوار بين المسؤول والرعية وتهميش صوت الطبقة الضعيفة وغض الطرف عن رأيها وأفكارها مهما كان نوعها، نتجت عنها ردود أفعال كانت الجدران مسرحا لها.وقصد معرفة الإجابة على التساؤل الأخير نزلت ”الخبر” إلى الميدان، حيث قامت بمعاينة أغلب الكتابات الموجودة والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاثة مجالات رئيسة، يتعلق الصنف الأول بالكتابات الحائطية السياسية، في الوقت الذي كانت الكتابات الحائطية الثانية رياضية والثالثة عاطفية.الجدار.. حكاية رسائل مشفرةلم تتوقف ”الخبر” عند تصنيف أنواع الكتابات والمجالات التي تشهد هذا النوع، بل تعمقت داخل هذه المضامين لتشخيص معناها.. أسبابها وتداعياتها، حيث أخذ الجانب الرياضي نصيب الأسد من هذه الكتابات فتنوعت بتنوع الطفرات الرياضية التي يمر بها المنتخب أو حتى النوادي، وهنا توزعت الكتابات بين رسائل التهديد، مثل ما حدث مؤخرا في بيت فريق مولودية باتنة الذي عرف بداية هذا الموسم الكروي انطلاقة صعبة للغاية، جعلت أنصار البوبية يهددون بحرق بيت الرئيس السابق مثلما تشير إلى ذلك كتاباتهم ”نريد عودة المولودية إلى مكانتها” بعد أن أحرقوا حافلتي النادي. وتؤكد هذه القصة بأن هذه الكتابات عبارة عن رد فعل وليس فعلا، وتعبير عن غضب الأنصار تجاه الوضعية السيئة لناديهم من أجل رد الاعتبار.ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى رسوم احتفالية بتأهل المنتخب الوطني مثلا إلى نهائيات كأس العالم مؤخرا، أو إلى الحفاظ على المحيط الصحي والرياضي في صورة أشبه بالحملات الإعلامية منها إلى الكتابات الحائطية.وقد قام ”الكابتن” فتحي سوالمية، مدرب سابق بمولودية باتنة، بتصنيف الكتابات الرياضية إلى صنفين: إيجابية وسلبية. الأولى تتعلق بالافتخار بالانتماء إلى نادٍ معين أو منتخب ما، والثانية كتابات تتضمن العنف والتهديد والوعيد تجاه شخص أو مجموعة من الأشخاص.الكتابات السياسية.. في طريقها للانقراضلم تكن الكتابات الرياضية الوحيدة الحاضرة، بل كان للكتابات السياسية حضور نوعي هي الأخرى رغم بداية نقصانها مؤخرا، حيث تحمل في طياتها صراعا حزبيا وفكريا وتأييدا لهذا الطرف ومعارضة للآخر، حسب ما تقتضيه المتطلبات المكيافيلية والبرغماتية الآنية، غير أن هذا النوع تأثر بواقع العشرية الحمراء، وقلة الصراعات الفكرية مؤخرا، كما أن العامل الجغرافي شكل عاملا في انقراض الكتابة السياسية، بعد أن اعتبرت بمثابة دعوات للجهوية أكثر منها حزبية أو حتى فكرية بدرجة أقل.الكتابات العاطفية.. موضة الحب العصريوعكس ما تعرفه الكتابات السياسية من تناقص، فالكتابات العاطفية أصبحت متزايدة بشكل كبير، فهي تغطي معظم الجدران اليوم كعبارات ”وكيلك ربي يا فلان” أو”وكيلك ربي يا فلانة”، وهي كلمات توضح بشكل جلي كيف وجد مقيمو هذه العلاقات الجدران أحسن وسيلة للتعبير عن تعرضهم للغدر والخيانة من الطرف الآخر، بل منهم من يعرض هذا الشكل من الخيانة في قالب تفصيلي أكثر، وهو ما يؤكد أن الجدار وبغض النظر عن كل معطيات هذه العلاقات أصبح بالفعل متنفسا حقيقيا لهذه الفئة الهامة من المجتمع.وفي الوقت الذي تعيش جامعات ومعاهد الإعلام والاتصال بصفة عامة وكليات العلاقات العامة والإشهار بصفة خاصة في العالم المتقدم حركة علمية وتطورا أكاديميا سريعا جدا بدليل الطرق الحديثة جدا في الإشهار والبيع كاللافتات الضوئية والإلكترونية، لايزال المجتمع الجزائري يؤمن بأن الجدار هو أمثل طريقة لبيع منزل أو شقة أو حتى فيلا وغيرها من العقارات، لدرجة أن الإنسان يعتقد وللحظة بأن شارعا أو مدينة كاملة للبيع نتيجة عبارات ”للبيع” الموجودة على طول ذلك الشارع أو تلك المدينة.ورغم التطور الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها ”الفايسبوك” الذي يعرف الملايين من المشتركين في الجزائر، والذي وُجد خصيصا من أجل التفاعل التشاركي بين الأفراد، ومساحة واسعة لإبداء الرأي والرأي الآخر، إلا أن الجدار الإسمنتي لايزال يرفع التحدي في وجه الجدار ”الفايسبوكي”، بعد أن حافظ على دوره كأداة فعالة للتنفيس والترويح عن النفس، ما يؤكد أن الجدار الإسمنتي يملك خصوصيات تفرقه عن غيره من الجدران.التنشئة التربوية ولغة الحواروبعد تشخيص الظاهرة، وجب الوقوف على الحلول المقترحة والمقدمة من طرف أهل الاختصاص قصد القضاء على هذه الظاهرة، حيث يرون أن التخلص من الظاهرة يتطلب توفير مجموعة من الأسباب، بداية من فتح قنوات حوار تبدأ أساسا من الأسرة كونها اللبنة الأولى في مؤسسات التنشئة الاجتماعية، مشيرين إلى ضرورة مراجعة أساليب الأسرة، حيث قالوا في هذا الصدد إن التربية التي بنيت على عنف لا تولد إلا عنفا، وحملوا المؤسسات التعليمية والثقافية الشبانية بعض المسؤولية، ودعوها إلى تغليب لغة الحوار ونبذ لغة العنف.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات